ساهمت الأحاديث النبوية (القدسية والشريفة) في تكوين الوعي التاريخي عند المسلمين الاوائل. فبعد القرآن الكريم تأتي الاحاديث مصدرا ثانيا لفهم العقيدة وتوضيح ما يصعب تفسيره من آيات منزلة.
وبقدر ما ساهمت الاحاديث النبوية في شرح الغموض اطلقت بدورها سلسلة مناهج فقهية اختلفت في مستوى الأخذ بهذا الحديث ورد ذاك، وهو أمر ساهم لاحقا في بلورة مدارس متعددة تطورت في سياقات تاريخية وثقافية وانتهت إلى مذاهب فقهية استمرت حتى يومنا.
يشير محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة قبل التدوين» إلى ان أبا هريرة (توفي سنة 59 وقيل 57 هجرية) هو اكثر من روى الحديث (5374 حديثا)، وعبدالله بن عمر بن الخطاب (2630 حديثا)، وأنس بن مالك (2286 حديثا)، وعائشة أم المؤمنين (2210 احاديث)، وعبدالله بن عباس (1660 حديثا)، وجابر ين عبدالله الانصاري (1540 حديثا)، وأبا سعيد الخدري (1170 حديثا)، وعبدالله بن مسعود (848 حديثا)، وأبا ذر الغفاري (281 حديثا)، وأبا الدرداء (179 حديثا). (راجع صفحات من 15 إلى 116).
ومقارنة مع ما رواه الخلفاء الاربعة (رض) نرى ان مجموع ما نقل عنهم لا يتعدى 1413 حديثا. فالخليفة الاول روى 142 حديثا، والثاني 539 حديثا، والثالث 146 حديثا، والرابع 586 حديثا.
ووصلت الاحاديث المروية في مجموعها إلى عشرات الآلاف الامر الذي دفع العلماء إلى تأسيس مناهج فقهية لدراستها وتحديد مصادرها لمعرفة الصحيح منها، فنهضت سلسلة اتجاهات متعارضة في هذا الشأن رسمت حدود الاختلاف في المذاهب السنية والشيعية وأسست أو بررت ظهور الفرق والملل والنحل في فترات متفاوتة من التاريخ الاسلامي.
وعلى رغم الدور الذي أدته الأحاديث في رسم حدود وعي تاريخ الماضي عند المسلمين فإن هناك الكثير من الاحاديث ساهمت في بلورة رؤية للزمن حددت اسس وعي تاريخ المستقبل. فهناك احاديث قرأت مستقبل المسلمين قبل حدوثه ورسمت معالم الزمن في فترات متعاقبة.
وابرز الاحاديث، التي ساهمت في وعي الزمن والمستقبل، كانت تلك التي اشارت إلى «البدعة» و«الطبقات» و«الفرق» اذ استخدمها العلماء والفقهاء واهل العلم والتاريخ في تفسير التاريخ وقراءة تحولات الزمن ورسم مسافات الاختلاف بين فئة وفئة وصولا إلى تحديد صفات «الفرقة الناجية».
يقول ابن الجوزي (توفي 597 هجرية) في كتابه «تلبيس ابليس» - ان السنة في اللغة تعني الطريق «ولا ريب في أن اهل النقل والاثر المتبعين آثار رسول الله (ص) وآثار اصحابه هم أهل السنة لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وانما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله (ص) واصحابه». اما البدعة فهي «عبارة عن فعل لم يكن فابتُدع، والاغلب في المبتدعات انها تصادم الشريعة بالمخالفة وتوجب التعاطي عليها بزيادة او نقصان».
ويرى ابن الجوزي أنه اذا كانت البدعة كالمتمم «فقد اعتقد نقص الشريعة» وإذا كانت مضادة «فهي اعظم». واعتبر ان اهل السنة «هم المتبعون» بينما أهل البدعة «هم المظهرون شيئا لم يكن قبل ولا مستند له ولهذا استتروا ببدعتهم» (صفحات 31,30,29,28).
ابن الجوزي يستخدم «اهل السنة» في معنى انهم اتباع الطريق الصحيح في سياق تمييزه لهم عن اهل البدعة الذين اضافوا إلى الفكر الاسلامي بعض الآراء المترجمة عن اليونان والهند والفرس. فالسنة عند ابن الجوزي تشمل كل من آمن بالله ورسوله والكتاب المنزل وسير اصحابه وهي بالتالي تجمع كل المذاهب لتمييزها عن الفرق التي أنكرت الكتاب او بعضه وابتدعت بعض النصوص بذريعة ان الشريعة ناقصة وبحاجة إلى اضافات من خارج الكتاب والاحاديث.
ويشرح محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة قبل التدوين» معنى السنة واختلافه في اصطلاح المشترعين. فعلماء الحديث نقلوا ما يتصل به من سيرة وخلق وشمائل واخبار واقوال وافعال سواء أثبتت ذلك حكما شرعيّا ام لا . وبحث علماء الاصول عن المشرّع الذي يضع القواعد للمجتهدين ويبيّن للناس دستور الحياة، فاهتموا بأقواله وافعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام. بينما بحث علماء الفقه عن أعماله واقواله للدلالة على حكم شرعي، فهم يرون تبيان حكم الشرع في افعال العباد وجوبا او حرمة او إباحة أو غير ذلك. (راجع صفحات من 15 إلى 116).
أسس الاختلاف بين علماء الحديث وعلماء الاصول وعلماء الفقه، بحكم اختلاف وظائف كل علم، وجهات نظر غير متفقة في فهم معنى السنة وفي رفض البدعة. إلا انهم اجمعوا على تحديد الاصول والشروط للتمييز بين السنة والبدعة وهي شكلت مجموع مسائل اعتمدها العلماء والفقهاء لاحقا لقراءة الحركات السياسية والفرق الفلسفية التي ظهرت تباعا في التاريخ الاسلامي منذ صدره الاول إلى حاضرنا.
إلى مسألة معنى السنة والاخذ بالاحاديث ورفض البدع جاء حديث «الطبقات» ليعطي سلسلة تفسيرات متعارضة عن القصد من تتابع الزمن وانفكاك وحدة الامة ومصيرها ومستقبلها. فالحديث ادى دوره في بلورة الوعي التاريخي واسس نظرية منهجية استخدمت في قراءة التتابع الزمني، واستعملها العلماء والفقهاء بسياقات مختلفة عن المؤرخين. وصدر في حقلي الفقه والتاريخ الكثير من الكتب تحمل اسم طبقات (طبقات ابن سعد مثلا) محاولة دراسة التطور الفقهي من خلال تعاقب الاجيال. واستخدم ابن خلدون حديث الطبقات لقراءة التاريخ واضعا تصوره لنشوء الدول (قيامها، صعودها، هبوطها) من الناحيتين العصبية السياسية والعلاقات الاجتماعية انطلاقا من فهمه الخاص لمسألة التقدم والتراجع.
ماذا يقول حديث الطبقات؟ روى الحديث أنس بن مالك عن الرسول (ص) قال: «طبقات أمتي خمس طبقات كل طبقة منها أربعون سنة، فطبقتي وطبقة اصحابي أهل العلم والايمان، والذين يلونهم إلى الثمانين أهل البر والتقوى، والذين يلونهم إلى العشرين ومائة أهل التراحم والتواصل، والذين يلونهم إلى الستين ومائة أهل التقاطع والتدابر، والذين يلونهم إلى مائتين أهل الهرج والحرب». وروي الحديث ايضا عن ابي الاشيب بن دارم عن أبيه، قال: «قال رسول الله (ص) امتي خمس طبقات كل منها اربعون سنة». وافرد يوسف ابو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي (توفي 654 هجرية) في كتابه «الجليس الصالح والانيس الناصح» فصلا عن الموضوع بعنوان «ذكر طبقات هذه الأمة» عدد فيه تتابع الطبقات (الأجيال) من أهل «العلم والايمان» وأهل «البر والتقوى » وأهل «التراحم والتواصل» وأهل «التقاطع والتدابر» إلى أهل «الهرج والحرب» وهي الطبقة الاخيرة في سلسلة التراتب الزمني ومجموع مدتها 200 سنة.
شكل حديث الطبقات نقطة اختلاف بين علماء الحديث والاصول والفقه في تفسيره وشرحه واستخدمه علماء التاريخ في مناهج مختلفة وصولا إلى ابن خلدون حين استفاد منه في ترتيب منهجه التاريخي في مقدمته الشهيرة عن طبقات (اجيال) الدول من قيامها إلى انهيارها.
ادى الاختلاف في فهم معنى «حديث الطبقات» إلى بلورة منهجيات تاريخية حددت السياق الزمني للتطور بأساليب مختلفة أخضعت الحوادث إلى تفسيرات مسبقة مستفيدة من التتابع الذي ورد في الحديث
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 252 - الخميس 15 مايو 2003م الموافق 13 ربيع الاول 1424هـ