أمس كان يوم المفارقات. ومنذ 55 عاما تعيش المنطقة ذكرى مفارقات نكبة فلسطين. ففي 16 مايو/ أيار تحتفل «إسرائيل» بمناسبة تأسيس الدولة (الاستقلال) وتفاخر بانتصاراتها ونجاحها في هزيمة جيوش أربع دول عربية. والشعب الفلسطيني يحتفل بذكرى النكبة وتلك المأساة التي أصابت الأهل والأرض ومجموع العرب من المحيط إلى الخليج. وكل عام تتكرر الأفكار ويعاد إنتاج ما قيل قبل سنة ثم يعاد قول الأقوال في السنة الآتية ومن ثم التالية. انها مفارقات أجيال. فكل جيل يحمل وزر الجيل السابق، واللاحق يتحمل وزر الجيل الحالي. والحال مازال منذ 55 عاما على حاله: «إسرائيل» تفاخر بفوزها العسكري والشعب الفلسطيني ينظر إلى المستقبل ومستقبله كماضيه. نكبة تعقبها نكسة تعقبها هزيمة والمزيد من التراجع في وقت أخذ الواقع يتحوّل إلى حلم... وحلم العودة يتحوّل إلى كابوس.
انه يوم المفارقات حتى البارحة. أمس أيضا تكررت. «إسرائيل» اجتاحت في يوم تأسيسها ما تبقى من أراضٍ فلسطينية في الضفة وغزة فقتلت ودمرت وشتتت أهالي بيت لاهيا وبيت حانون. وفلسطين أو ما تبقى منها تعيش حال حصار من الخارج (دول العالم) ومن الداخل (انقسام البيت على الأهداف).
مفارقات الداخل (انقسام البيت الفلسطيني على خطة خريطة الطريق) تحيط بها مفارقات المحتل الذي يرفض حتى القبول بخريطة تصب في نهايتها في مصلحة «طريق إسرائيل» وبين الداخل و«إسرائيل» هناك الولايات المتحدة التي ترى ان الحل لا يكون عن طريق السياسة بل بوسائل الحرب. «إسرائيل» كعادتها احتفلت بالاجتياح بينما مستشارة الرئيس الأميركي لشئون الأمن القومي كوندليزا رايس تهدد سورية وإيران وتتهمهما بعرقلة السلام في منطقة «الشرق الأوسط». المفارقات نفسها تتكرر. «إسرائيل» تجتاح وتقتل وتدمر وتسبي وأميركا تتهم غيرها بتهديد الأمن والسلام. رئيس الحكومة الإسرائيلي ارييل شارون يرفض «خريطة الطريق» ويضع عليها بين 12 و15 ملاحظة ويطالب واشنطن بتعديلها وأميركا تشترط على القيادة الفلسطينية قبولها كما هي وتحرّم عليها الاعتراض أو وضع الملاحظات... ومع ذلك يستعد جورج بوش لاستقبال شارون والاستماع إلى ملاحظاته بينما يمنع ياسر عرفات من الخروج من مقر رئاسته من رام الله منذ أكثر من 13 شهرا.
المفارقات تعيد إنتاج نفسها منذ يوم النكبة وكل يوم. «إسرائيل» منذ تأسيسها ترفض قرارات الأمم المتحدة وتعترض على تطبيق كل ما صدر عن مجلس الأمن وهو في مجمله لصالحها، والشعب الفلسطيني يدفع ثمن اعتراضات «إسرائيل» وعدم انصياعها لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن... وفي النهاية يتهم الشعب الفلسطيني بعرقلة السلام وخططه. اليوم وأمس، وقبل أمس، وقبله... تقوم «إسرائيل» بتحدي الإرادة الدولية وتغزو الأراضي العربية وتسرق المياه العربية وتشرّد الفلسطينيين وترفض عودتهم وتمنع حقهم في القتال لاسترداد ما أخذ منهم من طريق القوة، وأخيرا وفي محصلة المجموع العام يتهم الشعب الفلسطيني بالعدوان على الأمن الإقليمي وزعزعة الاستقرار وتعطيل الوفاق الدولي في منطقة «الشرق الأوسط». حتى اليوم وأمس، وقبله تهدد «إسرائيل» أمن فلسطين ودول الجوار وترفض الانسحاب من أراضٍ عربية محتلة منذ العام 1967 وتعارض تطبيق قرارات مجلس الأمن (242 و338) وتتهم لبنان وسورية، بدعم من الإدارة الأميركية، بأنهما وراء عدم الاستقرار وزعزعة أمن المنطقة.
حتى «خريطة الطريق» وهي كارثة سياسية بحق الشعب الفلسطيني رفضتها «إسرائيل» وتطالب البيت الأبيض القبول بملاحظاتها كشرط للموافقة عليها بينما مستشارة الرئيس الأميركي تتهم الدول العربية وإيران بخرق أسس السلام والاستقرار في «الشرق الأوسط». انها المفارقات نفسها تعيد تجديد عناصرها سنة بعد سنة وصولا إلى عام الحرب على العراق واحتلال بغداد ومحاولة تشكيل حكومة ظل في بلاد الرافدين تكون أولى مهماتها الاعتراف بـ «إسرائيل» وفتح خط أنابيب النفط من الموصل إلى حيفا.
وتلك المفارقات التي تبدأ في الخارج ترى انعكاساتها في الداخل الفلسطيني فمثلا تشهد استقالة حزب العمل الإسرائيلي عمرام متسناع لأنه رفض التحالف مع زعيم الليكود بسبب عدم موافقة الأخير على «خطة الطريق» بينما تشهد ان الضغوط الخارجية فرضت على عرفات استحداث منصب رئيس الوزراء وتعيين محمود عباس (أبو مازن) فيه. والنتيجة السياسية لتلك المفارقة هي ان استقالة متسناع توحد القوة الحزبية الإسرائيلية وتفسح الطريق أمام توسيع قاعدة التحالف البرلماني لحكومة شارون الليكودية بينما الخطوة الفلسطينية على رغم ضرورتها التنظيمية توسّع شقة الخلافات بين الفصائل الفلسطينية وتنقل الصراع من الشارع ضد «إسرائيل» إلى البرلمان بحيث تصبح مهمة الحكومة الجديدة ملاحقة الانتفاضة لا مواجهة الاحتلال والغزو.
انها مفارقات سياسية تقف إلى جانبها سلسلة مفارقات أخرى تشمل المال والاقتصاد والدفاع. مثلا «إسرائيل» المعتدية تملك أكبر جيوش منطقة «الشرق الأوسط» وتعتبر الدولة الخامسة في العالم في قدراتها النووية وإنفاقها السنوي على موازنة الحرب (قياسا بحجمها وسكانها) بينما إدارة البيت الأبيض تطالب الدول العربية بتسريح جيوشها وتسليم مخازنها من سلاح وصواريخ عادية لضمان أمن الدولة المعتدية على فلسطين والأراضي والمياه في دول الجوار. مثال آخر، «إسرائيل» النووية التي تملك الجيش الخامس في العالم تدعي الخوف من سلطة فلسطينية لا تملك إلا السلاح الخفيف ولا يملك شعبها سوى الحجارة وتطالب قبل تطبيق «خطة الطريق» وبعد تعديلها نحو الأسوأ بتجريد الفلسطينيين من سلاحهم الخفيف وحجارتهم كشرط للقبول بدويلة ممزقة سياسيا ومجردة من السلاح ومقومات الحياة والدفاع.
كان أمس يوم المفارقات... ومنذ 55 عاما لا نزال نعيش ذاك اليوم حتى البارحة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 252 - الخميس 15 مايو 2003م الموافق 13 ربيع الاول 1424هـ