العدد 251 - الأربعاء 14 مايو 2003م الموافق 12 ربيع الاول 1424هـ

الوجه الآخر للحرب... مكتسبات استراتيجية

حسن بوخمسين comments [at] alwasatnews.com

لا شك في أن العدوان الأميركي البريطاني على العراق حقق الكثير من اهدافه وأغراضه، فلم يكن بحسبان أحد - على الإطلاق - هذا الانهيار السريع والمفاجئ لقوات الحرس الجمهوري العراقية وانسحابها المهين من مدينة بغداد! وتركها إلى القوات الغازية لقمة سائغة وسهلة، على رغم تلك المقاومة الشرسة والعنيدة التي أبدتها قوات النظام الأخرى الأقل عددا وعتادا في الاسبوعين الأوليين من الحرب، ما أعطى الكثير من المراقبين والمتتبعين لسير المعارك تصورا قويا بصعوبة دخول العاصمة، ما يعني إطالة أمر المعركة لعدة أسابيع... على أقل التقادير.

مع كل هذه التبعات السلبية والمعطيات الآنية المريرة على أرض الواقع فإنني انظر إلى هذه الحرب العدوانية من زوايا أخرى وأرى فيها نتائج وثمرات هي بمثابة دروس وعبر يمكن أن نستخلصها باعتبارنا شعوبا مغلوبا على أمرها معتدى عليها، وهي في الوقت نفسه تفرض نفسها بقوة على الطرف الآخر، من هو في موقع المعتدي.

أولى إفرازات هذه الهجمة السافرة، وما يمكن ان نستخلصه من المجريات اليومية لوقائع المعركة، تتمثل في حقيقة أن التصدي الشجاع والاستبسال في المقاومة هو السلاح الوحيد المتاح أمام الطرف الأضعف في الجبهة العسكرية مع اختلال الموازين ورجحان الكفة لصالح أحد الطرفين، وبالتالي هذا التفاني في الدفاع والمجابهة هو الكفيل بإحداث التوازن المطلوب وخلق المعادلات الجديدة التي تؤدي بدورها إلى قلب الحسابات والموازين وخصوصا إلى من كانت تميل الكفة إلى صالحه بداية.

وفي تجربة الحرب الأميركية العراقية الحالية، وقبل الانتكاسة الأخيرة للقوات العراقية وجدنا ورأينا بوضوح وتجل ما ذكرته وأسلفته، فالمقاومة العنيفة والبطلة وجولات الكر والفر التي أبداها الجنود العراقيون - على رغم محدوديتها وقصرها على فئات معينة محسوبة على النظام - أجبرت الغزاة الأميركيين على التوقف برهة من الزمن وعدم مواصلة الزحف نحو العمق العراقي، بعد اخفاقاتهم المتتالية في تحقيق أهدافهم المرسومة لهم سلفا في اختراق المدن الجنوبية والسيطرة عليها، وبالتالي إعادة النظر والحسابات عند الجانب الأميركي، واضطراره إلى صوغ الخطط والتكتيكات العسكرية مرة أخرى، ونماذج معارك أم القصر والبصرة والناصرية وكربلاء شاهدة على ذلك.

ولولا تخاذل قوات النظام الخاصة والحرس الجمهوري وانهزامها نفسيا في الأيام القليلة الماضية لما استطاعت جيوش العدوان اختراق الجبهة العراقية بهذه السرعة بعد كل هذا الصمود المتواصل لثمانية عشر يوما.

ولا يفوتني التأكيد، وأنا بصدد الحديث عن تجربة الغزو الأميركي للعراق هذه، أن الشعب العراقي بمجمله كان مغيبا تماما عن رحى هذه المعركة الشرسة، فقد قرر معظم أبنائه اتخاذ موقف الحياد في هذه الحرب، وذلك لما يعرفه الجميع من رغبتهم الشديدة في الخلاص والتحرر من هذا النظام وفتكه وبطشه.

وهذه الحقيقة هي التي تزيد فكرتي تأكيدا وتأصيلا في عدم القدرة والتمكن لأية جهة كانت مهما بلغت من قوة، من قهر ارادة الشعوب وكسر صمودها. فلو كانت جماهير الشعب العراقي راغبة في نظامها الحاكم مؤمنة بالذود عنه وحمايته لما استطاع البريطانيون الغزاة دخول البصرة - مثلا - إلا بعد أن تلحق بهم أشد الخسائر البشرية واللوجستية وأفدحها وبعد أشهر من الحصار عليها، كما كان الحال في نموذج المقاومة الفيتنامية التاريخية للغزو الأميركي. فبالتالي من أهم الاستنتاجات التي خلص إليها الأميركيون - في نظري - بعد انقضاء معارك العشرين يوما الماضية - والتي طالت نسبيا عما توقعوه هم على الأقل وصدروه مسبقا وعلى ألسنة كبار المسئولين - أن الغزوات والاعتداءات المقبلة فيما لو تمت لا سمح الله، لن تجري مثل سابقتها، بل ان ما مضى لا يقاس بما هو مقبل، فالطريق إلى أرض دولة عربية أخرى لن تكون مفروشة لهم بالورود والرياحين، كما توهموا ذلك في أرض الرافدين، ولو تحقق بشكل جزئي وبسيط، ولن يقف أي فرد ينتمي إلى هذه الدولة العربية أو المسلمة موقف المتفرج والمحايد كما كان الوضع في العراق، فهو كما اسلفنا حال استثنائية لا مثيل لها بهذا الحجم والواقع في وطننا العربي والاسلامي.

وأيضا - ومن زاوية أخرى - فإن ما جرى يبعث برسالة واضحة وصريحة إلى باقي الأنظمة الحاكمة في عموم وطننا العربي وخصوصا غير الديمقراطية منها - وهذا ثاني الدروس المستخلصة من هذا العدوان الغاشم - بأن الاسلوب الأساسي والصحيح في بقاء السلطة وديمومتها وبالتالي قطع الطريق أمام التدخلات الخارجية الأجنبية في الشئون الداخلية وتفنيد حججها بوجود أنظمة القمع والارهاب بحق شعوبها بدلا من الحرية والعدالة والتسامح معها ومن ثم رغبتها في تغييرها وازالتها ولو عن طريق القوة العسكرية. ما يمنع كل ذلك ويكفل عدم تكرار التجربة العراقية هو ايجاد تلك العلاقة السليمة والراسخة بين السلطات الحاكمة وجماهيرها عبر إرساء نظام الدستور والقانون، وإشاعة أجواء الديمقراطية والانفتاح السياسي، وفي بعض الأحيان، لا أقلا، الاستعداد لتقديم التنازل لمطالب التغيير والاصلاح الداخلي وتلبيتها، والوصول في النهاية إلى بر الأمان السياسي والاجتماعي

العدد 251 - الأربعاء 14 مايو 2003م الموافق 12 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً