العدد 251 - الأربعاء 14 مايو 2003م الموافق 12 ربيع الاول 1424هـ

أحاديث لبنانية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هناك الكثير من الأحاديث اللبنانية.

فتلك الأحاديث أشبه بالحكايات التي يعاد تكرارها في الحضور والغياب إلا انها في النهاية تعكس هواجس الخوف من عودة الماضي والقلق من المستقبل. لا جديد في لبنان، فالقديم يعاد ترسيمه إذا كان صالحا أو يردم به البحر حتى لا تتحول الذكريات إلى حواجز تمنع المستقبل من الظهور. فالآتي من الأيام يبقى بالنسبة إلى اللبنانيين هو الأفضل حتى لو حمل معه الكثير من الغموض والهموم.

الأحاديث اللبنانية أشبه بالألغاز فهي تُختزل بكلمات. وكل كلمة لها الكثير من الشروح والتفاسير.

الكلمات تتردد مختصرة «فلسفة» مجتمع قيض له أن يعود إلى حياته السياسية بعد غياب طويل سادته الحروب والعنف والاقتتال وصولا إلى الذبح الطائفي والمذهبي على الهوية.

وأحيانا وضع البريء ضريبة الأحقاد ونجا المذنب من جرائمه. لبنان عاد ولم يعد... إلا أن أحاديث الذكريات ترسم حدود مستقبل بلد دمر تقريبا بالكامل ويعاد تجديده بعقلية مضطربة وحائرة بين ماض مؤلم وحاضر ممزق ومستقبل لا يعرف من الآن إلى أين يتجه.

الأحاديث اللبنانية أحاديث ذكريات إلا أنها ليست بعيدة عن الواقع. فالكلام لغة العقل الذي يعكس أحيانا وينتج أحيانا أخرى الكثير من المفردات التي لها دلالات تشير إلى ناحية يرى فيها اللبناني نقاط مأزق من الصعب التقدم إلى الأمام إذا لم تتفق الأطراف على معالجته.

الأحاديث كثيرة ويمكن اختصارها إلى كلمات منها المال، الاقتصاد، الوظيفة (الدور والموقع)، فلسطين (التوطين) الهوية، سورية، الصراع ضد «إسرائيل»، حزب الله، المياه، الصراع الدولي على لبنان (فرنسا وأميركا) وغيرها من قضايا مستجدة لها صلة بالديون والإعمار والتوازن الديموغرافي (الطائفي).

الكلمات كثيرة كالأحاديث. وكل مفردة لها وقعها الخاص وسحرها السياسي الذي يختزل الأفكار بمجموعة ألفاظ لا معنى لها إلا إذا وضعت في إطارها وجرى الكلام عنها في سياق سجالي تفهم منه المفردات المضادة.

هناك الكثير من الأحاديث. عن المال مثلا يجري الكلام عن 30 مليارا من الدولارات مسجلة ديونا مستحقة ولا يملك منها لبنان سوى القليل. وحين يتم تداول قيمة الديون وفوائدها يتشعب الحديث عن بيع القطاع العام (الخصخصة) وعن إعفاءات إذا وافقت الدولة على توطين الفلسطينيين. فالحديث عن الاقتصاد يبدأ بالمال وينتهي بالسياسة. والكلام عن التوطين يبدأ بفلسطين وينتهي بالهوية ومعنى التجنيس ومدى تأثيره على التوازن السكاني (الطائفي). والكلام عن الطائفية ينتهي إلى الوظائف ووظيفة لبنان الدولة وماهية الدور الذي ترسمه الدول الكبرى لموقع لبنان الوطن. والكلام عن الوظيفة (الدور والموقع) يبدأ بالاقتصاد المحلي ويرتقي إلى مناقشة الصراع الدولي والتجاذب الأميركي الفرنسي على لبنان. والحديث عن الصراع الدولي وتراجع مكانة فرنسا ونمو نزعة «الأمركة» في المنطقة يفتح باب الكلام عن حزب الله ومصيره وأطماع «إسرائيل» في مياه لبنان والوجود السوري ورفض «إسرائيل» خريطة الطريق واحتمال تجدد الصراع على فلسطين لرسم خريطة جديدة في الشرق الأوسط.

الأحاديث اللبنانية متشعبة... وهي في معظمها منسوجة الخيوط تشبه سجادة عجمية تتداخل فيها الألوان وتختلط لترسم في النهاية صورة أو كلمات ترمز إلى أشياء تستدعي التفكير، ولكنها في معظمها مملة لكثرة تكرارها. وكلمات الأحاديث هي مفاتيح أفكار تعكس الهواجس والمخاوف وأحيانا الأحلام. والأحلام هي سمة من سمات الشعوب الصغيرة التي تنظر دائما إلى الأعلى ظنا منها ان الدول الكبرى لا تنام الليل من كثرة الاهتمام والتفكير بمصير الدول الصغيرة. فحين يلتقي رئيس دولة كبرى آخر، تعتقد الشعوب الصغيرة ان شئونها الخاصة وهمومها اليومية كانت على جدول أعمال ذلك اللقاء.

واستنادا إلى ذلك اللقاء تبدأ أحلام اليقظة بالتناسل وتتكاثر الأحاديث عن مشروعات وحلول وإمكانات واحتمالات تتردد في كلمات تختصر المشكلات من مال واقتصاد ودور وموقع وهوية ومياه وأطماع ومخاطر وتوطين وتجنيس إلى آخر أوهام اليقظة.

هذه الأوهام يعاد إنتاجها دائما من دون كلل أو ملل حين تأتي الفرصة وأحيانا من دون سبب أو واقعة تبرر الحديث عن قرب انفراج لمشكلة يرى فيها اللبناني انها من صنع غيره وليست من صناعته.

هناك الكثير من الأحاديث اللبنانية وهي أشبه بتلك الحكايات التي تبدأ بعقدة وتنتهي بعقدة لا حل لها.

مشكلة اللبناني هذه هي مشكلة مختلف الشعوب الصغيرة الضائعة والتائهة في عالم مضطرب لا تُعرف حدود استكبار الدول الكبرى في التحكم بثرواته ومصادر رزقه. وتزداد المشكلة تعقيدا حين تلتقي الدول الكبرى لتتقاسم «الجبنة» ولا تتطرق في جداول أعمالها إلى تلك الأحاديث التي تحلم الدول الصغيرة بأنها مدار بحث بينما هي مجرد أحاديث يتداولها اللبنانيون وغير اللبنانيين... همسا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 251 - الأربعاء 14 مايو 2003م الموافق 12 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً