العدد 251 - الأربعاء 14 مايو 2003م الموافق 12 ربيع الاول 1424هـ

الكتابة عندي اكتشاف لعدمية الحياة

أجرت الحوار - رحاب ضاهر 

تحديث: 12 مايو 2017

الحوار على بوابة عبده خال كما العشب الذي أكلته المدن، فعندما عبرت بوابته بحثت عن أسئلتي فلم أجدها وقال لي: دعي أسئلتك جانبا - يا سيدتي - واتركيني أشكل (الطين) على هيئة كلمات مجنونة أو ربما مسروقة من سجلات البشرية، فالكتابة تتحول معه إلى سرقة وجنون، وكان علي أن أستغل هذه اللحظة لأسرق منه كل ما أريد قبل أن يستفيق ويطالبني بشطب كل ما قاله: من أي الطرق بدأ عبده خال؟

- من ذلك الطريق الأزلي قدمت، ومن قبل أن أولد كان هناك شخص يكتب حلما صغيرا ويمحوه، وجئت لأستكمل دوره أو ألعب، جئت لألعب الدور نفسه... جئت من بداية الكون لأتداخل مع تشابكات الكون، أسير في منتصف طريقي الخاص وأرى أن العالم كلما كان بسيطا كلما كان قادرا على تقبل المغالطات من غير اعتراض.

البدائية تقبلك متوحشا رافضا، تقبلك كائنا يحلم ويغني ويرفض، هذه هي النعم الإنسانية، وهذه النعم فقدناها في كل هذا التلوث المدني. هل تتبنى العودة للبدائية؟

- البدائية نقطة انطلقنا منها وسنعود إليها، نحن أشبه بسهم انطلق من غير تصويب الهدف، وسيعود الصياد لحمل السهم والتدقيق في رميته التالية.

إذن تتوقع العودة إلى البدائية، هل مرد ذلك لأننا نعيش همجية الآلة والقوة الواحدة؟

- لا توجد قوة واحدة، فالقوة الواحدة نصنعها نحن بإذعاننا وحرصنا على الحياة، ولو أننا مللنا من هذه الحياة ولم نذعن لأية قوة سيصبح من مهمة هذه القوة استنفاذ طاقتها لإفناء هؤلاء الباحثين عن الموت ومن هنا تنضب طاقتها وتتلاشى وتغدو كائنا طفيليا يبحث عن طاقة أخرى تعيد له مجده في السيطرة في حين تنهض قوة الموت لبناء الحياة، نحن نعيد سيرة العنقاء في جانب القوة، ثمة قوة قاهرة تتلاشى في استنفاذ قوتها على فناء الآخرين ويغدو البحث عن الموت قوة تفني القوة الباحثة عن الحياة.

والبداية التي أتحدث عنها هي عودة طبيعية، عودة لاستكمال شكل الدائرة المسيطر على هذا الكون.

لنبسط المسألة، هل تنادي بالعودة إلى القرية هربا من قلق المدينة وتوترها؟

- حتى العودة إلى القرية لم يعد ممكنا، لكون القرية تم استلابها، غزتها المدينة وجعلتها مسخا لا هي قرية ولا هي مدينة. تشوه القرية يثبت وجهة نظري بأن الأشياء تزحف إلى الأمام.

أنا لست رجلا ماضويا أعلم تماما أننا أشبه بمعلبات داخل مصنع لنا مكان معين يتم فيه تعبئتنا ضمن دورنا ونغلق ويتم تصديرنا واستهلاكنا وقذفنا في براميل النفاية ثم جمعنا مرة أخرى وإعادة تصنيعنا، ولأنني أعرف ذلك لا أطالب بالعودة إلى الماضي أو البكاء على الأطلال فقط أقرر لك حالة.

أشعر أنك كائن قروي، فهل تعشق القروي في داخلك أم ابن المدينة؟

- ابن القرية داخل اللعبة، وأصبح قادرا على السير في منعطفاتها الحادة أو على سير المصنع ولم يعد باقيا فيه سوى قروي يحن إلى العودة لكن ابن المدينة يزجره دائما لأنه يعرف أن الحركة إلى الأمام وليست هناك آلية للعودة للخلف كما أن العودة إلى الخلف ضد قوانين اللعبة في مشهديتها القائمة.

هذا المشهد نحن جسدناه بمفهومنا المتوارث، وتصبح مخالفة اللعبة ليست في الخروج منها بل في نقض القائم والعودة إلى العب من جديد... ربما استطعت جزئيا أن أشير إلى هذا القانون الأزلي في رواية الطين.

وما لم ننقض تلك اللعبة وارتضينا استكمالها تصبح جملة المصطلحات من شوق وحنين وذكرى ونسيان هي أوراق اللعبة التي تجعلنا نكملها ونتمنى العودة إلى الخلف، ولأن القوانين ترفض ذلك فقد اخترعت الحياة وسائل للإنسان كي يواصلها... جعلته يحن ويتذكر وينسى يقوم بكل هذه المشاعر ملتاعا ويتمنى عودة الزمن ولو انه كان حريصا على تحقيق مشاعره لما بقي في الحياة كثيرا.

مجموعتك الأولى «حوار على بوابة الأرض» كيف تجدها الآن؟

- مجموعة طموحة لشاب صغير، حاولت اللعب باللغة ولأني لا أعرف أسرارها جيدا فقد حجبت شخوصا صرخوا ضد الظلم من وقت مبكر، حجبت عوالم كان بالإمكان أن تكون أكثر جمالا مما كانت عليه.

الموت يشكل لك هاجسا يبدو منذ روايتك (الموت يمر من هنا) وهذا ضد الحياة!

- نعم الموت هاجسي ولكن ليس بمفهوم الفناء، ليس بمفهوم أن نتدثر التراب ونمعن في الغياب. أرى الموت هو الأصل وليست الحياة، الحياة هي وقت مستقطع بين موت وموت... فالموت هو الأصل... نحن كنا في موت ثم انتقلنا إلى الحياة، هذه الحيلة يتقطعها الموت يوميا (أتحدث هنا بمفهوم إسلامي)، والموت الذي يتقطعنا ونستلذ به هو النوم، نموت بلذة ولذلك أرى في الموت لذة ولذة عارمة... اقل شيء ألا يجرؤ أحد أن يمنعك من مد قامتك باسترخاء طويل!

في «الأوغاد يضحكون» وفي «الطين» ثمة جنون عاصف. إلى أي حد تقترب من لحظات الجنون؟

- في البدء أود القول إنني مجنون في كل ما كتبته وبعدها أقول لك: من منا ليس مجنونا، ولكن من غير شهادات طبية تؤكد هذا الجنون، وفي الوقت نفسه من غير شهادات تنفي أننا لسنا مجانين... فهل تستطعين إثبات انك لست مجنونة؟! الجنون حال إنسانية تنتابنا في أوقات كثيرة، نحن نسير على الكلمات، فالكلمة قاصرة الدلالة، هي عاجزة عن إيصالنا إلى الدلالة الحقيقية للفعل الذي نمارسه ولكي لا نفقد توازننا نتواطأ في خلق مصطلحات تبقينا بعيدين عن تهمة الجنون على سبيل المثال.

وفي الكتابة أنت تبحث عن هذه اللحظة لتكتب، هنا تتحول إلى لص مهمتك سرقة ما بداخلك في لحظة غياب عقليتك الصارمة في اتباع إرشادات الحياة والمجتمع، الروشتة التي عليك انتهاجها لكي لا توصم بالجنون، أنت ككاتب تدخل إلى هذه النفس فتكتشف أن بها أودية سحيقة وفي كل جزء من هذه التضاريس عالم يضج بالحياة، عالم سرق في زمن ما وتم تخبئته داخلك، عالم يضج بالتناقضات ويشير إلى عواصف من الجنون تجتاح تلك الأودية.

وما الذي سرقته من داخلك ؟

- هذه السرقات تحتاج إلى تدريب مضن، دخولك اليومي إلى تلك التضاريس يجعلك جشعا أو ربما تكون سارقا بليدا يكتفي بما تصل إليه يدك وتعاود الركض إلى الخارج، إلا أن المتدربين لدخول تلك الأعماق يعرفون تماما أن هناك كنوزا أثرية تعود إلى ملايين السنين، كنوز تم تخبئتها في جينك البشري، كنوز تحمل سجلات البشرية، ودخولي المستمر لهذه الأعماق هو محاولة لسرقة النار المقدسة وإشعال الأرض بعود صغير لرؤية ما تم فيه من سرقات متبادلة.

لماذا تسمي الكتابة سرقة؟

- نحن نتكون من نتف متعددة من المعارف والسلوكيات والجينات والعادات، كمُ مهول من النتف تمت سرقتها من الآخرين أثناء مسيرتنا الحياتية، هذا ما يسمونه بالمعارف المكتسبة وهي تسمية تنحرف بفعلتها من تسميتها باسمها، كل هذه المسروقات يتم تخزينها في اللاشعور وحين نكتب نأت إلى هذه المنطقة ونكتشف الكم المهول من السرقات التي وضعناها في مخزننا اللاشعوري وحين نسرقها ونعيد صوغها ونغير جزيئات منها لننسبها إلى نفسنا نكون سارقين شيئا لا يخصنا بتاتا وغنمنا ترسبا في أرضيتنا بفعل التراكم المعرفي الذي يسمونه الاكتساب. وربما يكون هذا مفسرا لتشابه بعض الكتابات في أزمان مختلفة أو ما يطلقون عليه توارد خواطر.

ألا تخشى أن يقال أن أعمالك الأدبية مسروقة؟

- أنا ممن يخمر مكتسباته، مثلي مثل كل الكتاب الذين يقولون انهم بكتبون عالمهم... ليس هناك أحد يكتب عالمه هو يكتب الخريطة البشرية، يكتب الجزء الذي يقع عليه ضمن تلك الخريطة.

الفرق بيني وبين أولئك الكتاب أني أقول إني أسرق عالمي من تلك التضاريس النفسية... هناك أجد كل المسروقات التي سرقها الأجداد وشاركتهم في إعادة تشكيلها وعرضها للبيع من غير أن يقال إن هذه السلعة لفلان أو علان.

عن ماذا تبحث في كتاباتك؟

- لا شيء... هنا اكتشاف لعدمية الحياة، عدمية أولئك الذين يعكرون المياه ويحولونها إلى برك آسنة بها كل القاذورات التي تطغى على زهرة تعاونت مع الطبيعة لتخرج وتزين هذه الحياة فإذا بها تقطف من مكان بعيد، من شخص أحمق فكر أن يحول صفاء السماء إلى لحظة عراك من أجل موقع كان يمكن تقاسمه لو أننا عرفنا أن هذه الحياة لن نبقى فيها كثيرا وان ما نجمعه فيها لا نأخذه معنا... تصوري في هذه اللحظة ملكا أو أحد الأثرياء الفاحش الثراء تصوري أن أحدهما مات سيقذف إلى حفرة عميقة ونهيل عليه التراب ويبقى ما خلفه نتنا ودليلا على فساد روحه، ونتنه يتمثل في حقارته التي تركها على الأرض من مصائب وويلات في حياة الآخرين.

والكتابة جمال بتجسيدها لكل التناقضات وجمع طرفي الكون في إعادة هضم ربما تكون عصارتها مقززة لكنها هي حقيقة الجمال في نظره. وعندما تكون كاتبا وتقف على حقائقك الذاتية ربما تغامر بكل شيء وتقول هناك كذبة كبيرة اسمها الحياة أو الواقع وأنت الوحيد الذي يمتلك حاسة الشم لتقول للجميع انتم تستنشقون القاذورات، وربما تكون منتميا مستجلبا من تاريخ آخر هنا تشعر بربكة المعايير والأحكام.

في رواياتك حشد لأصوات مهولة داخل الرواية، ماذا تريد من كل هذه الأصوات؟

- بل ماذا تريد هي مني ، فكلما جلست للكتابة قال الجميع رأيا في هذه الكذبة الكبيرة ومن جميع كلماتهم اصنع عالما متصارعا بهم. عالم ممزق بدلا من كل هذه الأصوات. ولكن أكون متسقا مع نفسي. أنا أساير شخوصي لكي تعيش كما تعيش ظلالها في الحياة أي أنها تخضع لقوانين اللعبة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً