في العام 1995، جمعنا وزير شئون مجلس الوزراء والإعلام (آنذاك) محمد المطوع في وزارة الإعلام ليعيد تعريف نفسه مجددا إلى الصحافة باعتباره تسلم لتوه حقيبة الإعلام، فسألته في ذلك اللقاء: «هل من المنتظر من الوزارة الجديدة أن تغير أسلوب العبارات الجامدة الجاهزة التي تصاغ بها الأخبار الرسمية، والتي غالبا ما تأتي مبهمة لا يعرف القارئ منها أي شيء، ويقرأ أن لقاء تمّ ولا ترد في الخبر أية معلومة مهمة؟»، فرد الوزير ضاحكا: «صدقني، ولا حتى كاتب الخبر يعلم ماذا دار في الاجتماع».
الأخبار الرسمية في صحافتنا المحلية تشكل معضلة حقيقية لمن يريد أن يمارس مهنة الصحافة بشكل محترف ومحترم، يقدس المساحة البيضاء من الصحيفة ليضع فيها ما يمكن أن يهم القارئ ويقدم إليه خدمة إخبارية ومعلوماتية جديدة، إلا أن الأخبار الرسمية ظلت في السنوات الماضية، «تكبس» على أنفاس الصحف، إذ تأتي محملة بالكثير من الصور المتنوعة، وأخطأت صحافتنا أيما خطأ حينما تسابقت في نشر وتكبير الصور، فصار هذا هو مقياس الولاء، ومن يريد أن يوالي الحكومة عليه أن يتبع أمرين مهمين: نشر الأخبار الرسمية كافة - على ما فيها من غموض - ومهما كلف الأمر، ونشر جميع الصور التي تأتي مع الأخبار، إذ قد تأتي مع الخبر الرسمي المرسل من وزارة الإعلام صورتان، ثلاث، أربع، خمس، وربما أكثر، وغالبا الصور لا تقول شيئا مختلفا، وزواياها الفنية فقيرة، إذ القصد منها أن يظهر فيها أكبر قدر من الجلوس بغض النظر عن وضوحهم أو انتظار لقطة مهمة، بل ان اللقطة «الإنسانية» ممنوعة، ربما لأن الرسميين لا يودون الظهور كبقية خلق الله، يغضبون ويرضون، يضحكون ويعبسون، حتى ان مصورا هاويا التقط صورة لوزير في إحدى الحفلات يتناول عصيرا، فلكزه المصور المحترف «الرسمي» قائلا له: «ليس من اللائق تصوير الوزير وهو يأكل أو يشرب»، أحد الظرفاء علق قائلا: «لأن الآلهة وحدها لا تأكل ولا تشرب، فهذا ضعف فيها، وكذلك الوزراء».
هذا التنافس على إرضاء أصحاب الصور في الأخبار الرسمية، جاء على حساب التنافس على الارتقاء بالعمل الصحافي، فالاجتماعات التي تعقد، وتناقش «سبل تعزيز العلاقات الوطيدة» و«توطيد العلاقات القائمة» و«الأمور ذات الاهتمام المشترك» إنما هي الصيغة التي تآمر عليها كسل المحررين الرسميين، ورغبة المسئولين في عدم تمرير إلا القدر الأقل من المعلومات للعامة، إما خوفا عليهم من كثرة المعلومات التي ترد في مثل هذه الاجتماعات، وإما لكي لا يتساوى من يعلمون ومن لا يعلمون في تناقل المعلومة والخبر، وبمرور الأيام، انمحت المعلومات المفيدة من الأخبار الرسمية، وليس معلوما إذا كان الرسميون يعرفون أن الصفحات الرسمية في الصحف المحلية هي أقل الصفحات مقروئية لدى الجمهور لعدم تعلقها بهم، وعدم تقديمها شيئا مفيدا اليهم.
إن الصوت - الذي أقل ما يقال عنه انه بات مملا من قبل شريحة عظيمة من الناس - يقول ان الحكومة كسولة، ولا تعمل كما يجب، وان البيروقراطية تنخر في دهاليزها، وان عددا كبيرا من المسئولين ليسوا إلا صورا تنشر في الصحف، تكون له صدقية حينما لا يعلم القارئ إلا أن الاجتماع الفلاني تم فيه «تبادل الأحاديث الودية».
ولكن يمكن الاستعانة بخبرين نشرا في غضون الأيام القليلة الماضية، ينبئانا عن كمّ الهدر المعلوماتي الذي تعرض له الرأي العام المحلي في السنوات الثلاثين الماضية، في الصيغ الإخبارية الهشة والرثة، وكم من معلومات ضيعت على الجمهور والمتتبعين الراصدين لحركة المجتمع.
الخبر الأول، آت من ناحية وزارة الدفاع، إذ التقى في الشهر الماضي وزير الدفاع مع النائب عادل المعاودة، ليأتي الخبر الرسمي أملس كالزجاج، مسطحا ضحلا ليس فيه ما يغري بالقراءة، إذ يذكر الخبر الرسمي أن الاجتماع تم لمناقشة الأمور ذات الاهتمام المشترك، وسبل تفعيل التعاون بين النواب والوزارة، غير أن المعاودة آثر القيام بما لم يقم به أصحاب «الكلاشيهات» الجاهزة في الوزارات المختلفة، فاتصل بنفسه بالصحف، وقال ان الاجتماع ناقش قضية المفصولين من قوة الدفاع بسبب إطلاق اللحى، وانه اتفق مع الوزير على برامج زمنية لعودتهم إلى الخدمة بحسب أوضاع معينة، والقارئ المتتبع لا بد أن يذكر تفاصيل هذا الخبر وتداعياته على مدى الأيام التالية.
والخبر الآخر، ما حدث قبل أيام، عندما زار عدد من رؤساء المجالس البلدية رئيس الوزراء صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة لإطلاعه على ما يعانونه من مشكلات وتداخل في الاختصاصات ورغبة في تغيير قانون البلديات وفك الاشتباك بينهم وبين وزارة البلديات والبيئة، هذه التفاصيل لم تكن لتعلم لو تم الاقتصار فقط على الخبر الرسمي المريح الذي بين دعم سموه للمجالس البلدية وحرصه على استمرار التجربة، ولم يتم التطرق إلى المقترحات والنقاط التي حملها الرؤساء إلى سموه.
هذه الصياغات الخبرية يمكن أن نتخيل كيف تتم في الدوائر الرسمية، ووزارة الإعلام أساسا، حين نعاين حادثا عرضيا قبل أكثر من عشر سنوات في حفل لتخريج فوج من جامعة البحرين تحت رعاية رئيس الوزراء، فما ان دخل سموه القاعة ووقف للسلام الأميري (حينذاك)، حتى اتصل كاتب الخبر التابع لوزارة الإعلام بهاتفه النقال هامسا: «الآن اطبعوا الخبر»، فالخبر كان معدا سلفا، والتصريحات معروفة، لا ينقصها إلا الصور حتى تتم المهمة، الأمر ذاته، مع قليل من التفاصيل يحدث يوميا في تغطية الوزارة للأخبار الرسمية المختلفة، فلقاء الوزير بسفير أي بلد سوف يخرج عن الحديث عن تقوية الروابط بين البلدين، واجتماع المسئول بالنائب - وهذا أمر استجد على قائمة الجمل الجاهزة - سوف لن يعدو تفعيل التعاون بين المجلس والجهة الحكومية، فإذا كان المحرر غير آبه بأن يعلم حقيقة ما دار في هذا الاجتماع، فمن باب أولى ألا يعلم القارئ أيضا لماذا أمضى الوزير سحابة يومه في «تبادل الأحاديث الودية».
إن التعامل مع القارئ في البحرين، وفي هذا الوقت تحديدا، بنوع من الاستخفاف في حقه في الحصول والوصول إلى المعلومة التي تبين كيف يعمل الجهاز التنفيذي في الدولة، وبالتالي كيف تبني القوى السياسية موقفها من البرامج والنشاطات التي تقوم بها أجهزة هذه السلطة، سيكون وبالا سرمديا في العلاقة غير السوية بين الحكومة بأجهزتها وأناسها، وبين الناس عامة، وبالا أحال الدولة إلى طرفين: الحكومة مقابل «الآخرين»، ومن المرشح أن تظل الثنائية هذه قائمة ما لم تتسع قنوات توصيل المعلومات، وتغزوها عقلية الشفافية.
ربما بعد سنتين من توليه منصبه الوزاري، وتعرفه - مجددا - على وزارته، فإن الوقت أزف بالنسبة إلى وزير الإعلام نبيل الحمر كي يلتفت إلى هذا الجانب الحيوي من عمل الوزارة، وأن يسعى ليطوق هذا «الثقب الأسود» في عمل الوزارة، وخصوصا أنه بدأ حياته العملية صحافيا.
ليس الأمر متعلقا بمحرري الأخبار الرسمية وحدهم، لأنهم - كما قال الوزير المطوع - لا يعلمون بما يدور خلف الأبواب بعد انصراف المصورين، الأمر الأساسي هو المتعلق بالعقلية الحكومية الرسمية التي آن لها أن تجعل من نفسها أكثر مقبولية أمام السلطة التشريعية من خلال توفير المعلومات، وتبيان كمّ الجهد الذي تبذله، وحجم المهمات التي تمارسها يوميا من خلال تسيير الأعمال، أو حتى في لقاء رسمي عابر مع ضيف للبلاد، وفي المحصلة، أن تكون هذه السلطة جديرة بمواقعها أمام الشعب... مصدر السلطات
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 250 - الثلثاء 13 مايو 2003م الموافق 11 ربيع الاول 1424هـ