المستشار الالماني جيرهارد شرودر لا يشعر بضرورة الاتصال هاتفيا بالرئيس الاميركي جورج دبليو بوش. وزيرة التعاون الاقتصادي والانماء في حكومته هايدي ماري فيتشوريك تسويل تدعو إلى تحميل واشنطن ولندن تكاليف الحرب واعادة تعمير العرق، والرئيس الالماني يوهنيس راو يقول انه كان يأمل في حل غير الحرب للأزمة العراقية، ورئيس البرلمان الالماني ولفغانغ تيرزي اندس بين جموع المتظاهرين المحتجين على الحرب امام سفارة واشنطن في برلين، ونائبة رئيس البرلمان انتيي فولمر سألت الرئيس الاميركي: اين اسلحة الدمار الشامل في العراق التي تذرعت بها لغزو هذا البلد؟ حرب العراق حركت عواطف الالمان بصورة لم يسبق لها مثيل. كانت قبل اندلاعها ومازالت حديث الساعة الاول والموضوع الذي تخصص له اجهزة الاعلام المختلفة المساحة الرئيسية فيها.
اراد الاميركيون ان تكون حرب الخليج الثالثة مختلفة تماما عن حروبهم السابقة فكانت النتيجة انها اول حرب وحياة غرف نوم الناس في انحاء العالم، سيطرت على تفكير وحياة الكثيرين، واصبحت حالة للمحللين السياسيين والعسكريين وعلماء النفس. كل ثاني الماني تابع الحرب بصورة مكثفة ويعترف بانه عاش المأساة كأنها على عتبة بيته. لم يسبق أن وقفت المانيا موحدة حكومة وشعبا كرجل واحد ضد حرب غير مشروعة وان كانت الولايات المتحدة طرفا فيها، فقد اصبحت عند كثير من الالمان طرفا خاسرا في حرب خسر فيها الجميع باستثناء فرق السطو والنهب وبعض الاكراد الذين يحتلون بيوت السكان العرب في كركوك والموصل وامام اعين المحتلين الاميركيين والبريطانيين.
من المعروف انه منذ الصيف الماضي، اي قبل اندلاع هذه الحرب العبثية، اتخذت الحكومة الالمانية موقفا رافضا لها بوضوح، على رغم ان هذا كان ومازال يهدد العلاقات بين المانيا من جهة وبين حليفتها الاولى منذ الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة الاميركية من جهة اخرى. وظن البعض ان الحكومة ستعجز عن التمسك بموقفها هذا، وان هذا الموقف سيؤدي في النهاية إلى عزلتها في حلف شمال الاطلسي وفي الاتحاد الاوروبي وعلى المسرح الدولي، واتهمها النقاد بأنها تجازف برفاهية وأمن شعبها. ولكن ما حدث كان العكس تماما. فقد تزعمت المانيا إلى جانب فرنسا وروسيا حملة عالمية مناهضة للحرب، والذي انعزل في النهاية في المحافل الدولية هو اميركا وبريطانيا في موقفهما المتشدد هذا. وقال الفيلسوف الالماني يورغين هابرماس الفائز بجائزة السلام التي يمنحها اتحاد الناشرين الالمان، ان اسوأ ما حصل للولايات المتحدة من جراء هذه الحرب، خسارتها احترام العالم. قبله وجد الاديب غونتر غراس الفائز بجائزة نوبل في الآداب ان بوش يشكل خطرا على العالم، يقول المراقبون ان هذا الموقف لم يأت بمحض الصدفة ولم يكن عفويا، فقد لاحظت المانيا، إلى جانب دول اوروبية اخرى من ابرزها فرنسا، منذ عقود، ان العالم العربي الاسلامي خصوصا، هو جارها الطبيعي، وان العمل على تأمين الاستقرار والسلام والرفاهية فيه، يضمن امن اوروبا وسلامتها ورفاهيتها، ولاشك في ان تجاربها مع حربين عالميتين مدمرتين في القرن الماضي، غذت النزعة السلمية فيها.
لم يكن من المستغرب ان المؤسسات الثقافية والكنائس الالمانية بالدرجة الاولى، بدأت باجراء حوار ثقافي وديني موسع مع العالم عامة، والعالم العربي الاسلامي خاصة، منذ فترة طويلة، بعد ان كشف هجوم 11 ايلول/سبتمبر العام 2001 عن ان هناك كما هائلا من سوء التفاهم والشك والأحاكم المسبقة التي تتراكم وتؤدي في النهاية إلى تفاقم ظهور نزاعات، ولعل اشد هذه الاحكام خطرا هي نظرية المؤامرة التي تنطلق من ان الغرب وحده هو وحدة متكاملة متجانسة، وانه لا همَّ له سوى الهيمنة على العالم العربي الاسلامي ونهب ثرواته، كذلك ايمان البعض في الغرب بان نظرية اليهودي الاميركي صموئيل هنتنغتون حول صراع الحضارات، نظرية صحيحة، على رغم ان العدد الاكبر ادانوا هذه النظرية التي تحرض على صراع الحضارات بدلا من الدعوة إلى حوار الحضارات، وقالوا انها تفتقر إلى الاسس العلمية السليمة، وتنطلق من افتراضات لا اساس لها من الصحة.
الرد الالماني على هنتنغتون كان ولايزال مجموعة من المبادرات التي لا تعد ولا تحصى ومازالت تنطلق من المانيا لتعميق حوار الحضارات والاديان مع العالم العربي الاسلامي. ولعل من ابرز هذه المبادرات، ما بدأه الرئيس الالماني السابق رومان هيرتسوج الذي دعا مجموعة بارزة من ملوك ورؤساء وكذلك رؤساء حكومات العالم العربي الاسلامي إلى توسيع الحوار المشترك والبحث عن اسس تعاون مثمر طويل الامد. الرئيس راو، الذي درس الدين المسيحي، ويملك علاقات صداقة قوية مع زعماء عرب تابع نهج سلفه ونبه في مناسبات عديدة إلى اللغط الذي وقع فيه بوش حين تحدث عن حرب صليبية واستشهد بالدين المسيحي. وقال راو ان بوش اسهم في خلق سوء تفاهم هائل ومؤسف لانه زج بالله تعالى في تعليله حربا غير مشروعة وليبرر هجومه على العراق وهو ما يغذي العداوة بين الاديان معتبرا انها نوايا مبيتة. وكشف راو ان الانجيل ليس فيه تعبير (حملة صليبية) وانه لا يمكن التصديق بأن شعبا يتلقى امرا من الله تعالى بتحرير شعب آخر. ونبه راو إلى ان البابا تحدث باسم المسيحيين وقال رأيه الرافض للحرب لكن دعوات المسيحيين الحقيقيين لم تكن كافية لمنع المتطرفين منهم من خرق قوانين الارض والسماء في آن معا
العدد 248 - الأحد 11 مايو 2003م الموافق 09 ربيع الاول 1424هـ