قريبا تحلُّ علينا ذكرى المولد النبوي الشريف، وهي ذكرى عظيمة وكبيرة في نفوس المسلمين الذين يرتبطون بنبيهم (ص) وكأنه يعيش بينهم. وعلى رغم كل ما قد يقال هنا أو هناك، وعلى رغم محاولة بعض الشاذين عن الجسد الإسلامي الأكبر، فإن ما يربط المسلمين بعضهم ببعض أكبر من أي شيء.
فالمسلمون ليسوا مثل المسيحيين الذين عانوا مئات السنين من الحروب على أساس المذاهب، بل إن أتباع المذاهب كانوا يحرقون بعضهم بعضا، وهو أمر لم يحصل في بلادنا الإسلامية على رغم قساوة الظروف. وحتى عندما نلاحظ أشد الظروف التي تعرضت لها إحدى الطوائف الإسلامية في بلد ما فإنه لا يمكن مقارنتها بما كان يجري في اروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر بأي حال من الأحوال.
المسلمون لديهم عوامل توحيدية كبرى أهمها الشهادتان «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، والقرآن الكريم والكعبة والصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها من الأمور الجامعة.
على أن هذه المفاهيم الجميلة والجامعة نراها في كثير من الأحيان لا تتعدى بعض القشور، ثم يصطدم المرء بالعادات والتقاليد، والانتماءات الفرعية التي يعطيها البعض اهتماما أكبر من الهوية الإسلامية العظمى. ولعل أحد أسباب ذلك هو التسييس الذي حدث خلال القرون الماضية، ما أدى إلى تقسيم المجتمعات الإسلامية إما إلى طوائف أو إلى قبائل. وبقيت التنظيمات القائمة على أساس الانتماء الطائفي أو القبلي هي الأساس في التعامل السياسي داخل مجتمعاتنا الإسلامية، ما عزز التأطير الثانوي وغلّبه في كثير من الأحيان على الإطار الأساسي وهو الإسلام.
وتاريخنا الإسلامي الحديث لم يعطنا تجارب وحدوية ناجحة. فقد كان أول شخص آمن بالوحدة الإسلامية من الناحية العملية في عصرنا الحديث هو جمال الدين الأفغاني الذي نشط وتوفي في نهاية القرن التاسع عشر. وبسبب إيمانه بالوحدة الإسلامية لم يستطع أحد الأطراف ادعاء تبعية الأفغاني له وبقيت آثاره لنا جميعا. فالأفغاني كان أفغانيا في أفغانستان، وإيرانيا في إيران، ومصريا في مصر، وتركيا في تركيا، لأن كل هذه الانتماءات كانت ثانوية بالنسبة إليه، وكان يؤمن ويمارس انتماءه الإسلامي بصورة مباشرة من دون تعقيد ومن دون شعور بالنقص أو التعالي.
جمال الدين الأفغاني ترك لنا أفكارا ولم يخلف بعدها أي تنظيم إسلامي. والحال هو ذاته ايضا مع مفكر آخر عاش في مطلع القرن العشرين وهو الفيلسوف محمد اقبال الذي حركت أفكاره المسلمين على أساس الوحدة الإسلامية.
بعد ذلك الجيل وبعد انهيار الدولة العثمانية وجد المسلمون أن الأحزاب الحديثة كانت بعيدة عن روح الأمة، فكفرت بها ولجأت الأمة إلى تنظيماتها التقليدية. وفعلا كان الذين قاوموا الاستعمار والغزو هم العشائر والقبائل والطوائف سواء كان ذلك في العراق أم السودان أم شمال افريقيا أم غيرها من البلاد الإسلامية. ولكن المقاومة الإسلامية للغزو الخارجي كانت غير متكافئة وانهزم كثير من تلك المقاومات، وظهرت الدولة القومية العلمانية الحديثة في عالمنا الإسلامي.
ولكي يتعزز وجودها (الدولة القومية) جنحت إلى التحديث بأسلوب فوقي وفرضت مناهج مستوحاة من خارج الثقافة الإسلامية، ما خلق ظاهرة الدولة العربية التي تستأسد على مجتمعها وتفككه ثم تحكمه طائفيا واثنيا، ولكنها من الناحية العلنية ترفع الشعارات الجميلة عن الحداثة والديمقراطية والقومية، إلخ.
وعلى الجانب الآخر تأسست حركات إسلامية في مطلع القرن الماضي ولكنها أيضا تحولت إلى حركات مذهبية. ففي العراق، مثلا، انتشرت أفكار الإخوان المسلمين وحزب التحرير في الأربعينيات والخمسينيات ولكن الناشطين المسلمين في العراق سرعان ما شعروا بأن تلك الحركات تخص مذاهب السنة فقط، لذلك انفصل عدد من أعضاء تلك الحركات الإسلامية «السنية» وأسسوا حزب الدعوة الإسلامية الذي كان نسخة «شيعية» لحركة الإخوان المسلمين.
في تلك الفترة كانت هناك محاولة للتقريب بين المذاهب بزعامة بعض علماء الدين في النجف وقم والقاهرة (الأزهر الشريف) ولكن تلك المحاولات توقفت عند حد معين وبقي اسمها فقط يتذكره قارئ التاريخ، لأن آثار تلك الحركة من الناحية العملية لم تتقدم.
وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان أمل الكثيرين من الناشطين أن تتحقق الوحدة (خارج إطار الشعار)، إلا أن الواقع المرير كان أصعب بكثير مما كان يتوقعه قادة الأحزاب الإسلامية التي ذهبت بإخلاص للتعرف على الثورة الإسلامية في إيران، وأكثر بكثير مما توقعه قادة الثورة الإسلامية الإيرانية ذاتهم الذين اخلصوا للشعار لكنهم ضاعوا (كما ضاع غيرهم) في التفاصيل.
وهكذا عدنا مرة أخرى نتحدث عن الوحدة باعتبارها شعارا جميلا، وربما ندعو إلى الاحتفال به بمناسبة المولد النبوي الشريف، ولكن على الأرض فان الشيعي يصوّت للشيعي والسني يصوّت للسني، والانتماء القبلي او الاثني او المذهبي يبقى الانتماء الأكبر، والحركات الإسلامية لم تنتج تجربة واحدة ورائدة بحيث تطرح البرامج العملية الموحدة على أرض الواقع، إذ مازال هذا الطرف وذاك يتعامل مع الآخر على أساس أنه «الآخر» الذي ينبغي التعامل معه بحذر. وفي هذه الحال فإن البعض ممن يقتات على أساس الخلافات يجد فرصته سانحة، بينما يبقى المخلصون يرددون الشعارات
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 248 - الأحد 11 مايو 2003م الموافق 09 ربيع الاول 1424هـ