العدد 247 - السبت 10 مايو 2003م الموافق 08 ربيع الاول 1424هـ

تحوّل مذهل عبر دهاليز التاريخ الروسي

ان فكرة كون التاريخ مهرجان عرض او آثار فنية تراثية، هي فكرة يتم التشكيك فيها في هذا الوقت، ولكن تم تقويمها بصورة مذهلة في الفيلم الجديد الذي قدمه المخرج الروسي الكسندر سوكوروف. لا يعجبني سوكوروف أبدا لأن أفلامه مثل فيلم and son Mother تبدو غالبا وكأنها محاكاة تهكمية متورمة للمزاج السلافي، كما ان فيلمه الأخير Taurus الذي يتحدث عن لينين تم تصويره بالكامل في أماكن خضراء مقرفة، تبدو مشاهدته كالسير في بحيرة من حساء القرنبيط.

ان فيلم Russian Ark هو فيلم جاد، ففي بعض الأوقات يمكنك أن تقضي على الجدية، ولكنه يمثل حماقة رائعة وشجاعة، الأمر الذي لا يمكن انكاره. على احد المستويات، يبدو كرحلة مع دليل سياحي الى متحف سانت بطرسبيرغ الكنسي، وعلى مستويات أخرى يعتبر رحلة عبر التاريخ الروسي، وتقريرا شفهيا عن الفن وعن ثقافة شعب ومصيره. راويها الخفي (وهو سوكوروف نفسه) يجد نفسه مدفوعا بقوة وبشكل غامض في أعماق التاريخ متجولا في الزوايا الداخلية للدير (المتحف) بصحبة رجل فرنسي عاش في القرن التاسع عشر هو الماركيز دوكوستين (سيرجي دريدين). هذا الفيلسوف غريب الأطوارالذي يطلق تعليقات مشوشة، هو نفسه متجول في الزمان والمكان، وهو ذلك النوع من الفلاسفة التاريخيين.

عندما تقوم الكاميرا بتتبع خطوات كستين الرشيقة التي تشبه خطوات الراقصين، يندمج الزوار مع الشخصيات التمثيلية - الممثلين الرئيسين وكذلك ممثلي الاحتياط الذين لا عد لهم - وهي شخصيات من التاريخ الروسي.

يتراجع الوقت ويتقدم بشكل مشوش، ففي لحظة نراهم في وسط زحمة أشخاص ذاهبين الى حفلة راقصة نابليونية، وفي لحظة أخرى نراهم يسترقون السمع للتنبؤات الكئيبة للرئيس الحالي للدير (ميخائيل بيوتروفسكي نفسه)، ثم نشاهد كاثرين الكبرى الشهيرة تتألق في ساحة يغطيها الثلج، وبعد ذلك مشهد لعائلة نيكولاس والكسندرا المشؤومة تجلس على العشاء ويرتدي جميع أفرادها ملابس بيضاء يبدون فيها كالأشباح. في بعض الأحيان تحوم الكاميرا على عمل فني محدد، إذ نرى الماركيز وهو ينتشي من فضائل الكانوفا الثلاث، ونرى الوجوه الكئيبة لرهبان الغريسو بيتر وبول وهما يحدقان من وسط مخيماتهما، بحيث يبدوان شخصيتين مستقلتين.

ان ما يجعل فيلم Russian Ark متميزا هو ان الفيلم كله يصور في لقطة واحدة تدوم 90 دقيقة، وبحسب كلمات سوكوروف «في نفس واحد» من دون توقف، الستيديكام الذي يدار من قبل تيلمان بتنر، ينزلق على طول الممرات، ويرفرف فوق الأوركسترا، ثم يتحول الى والتز ومازوركا. نظريا، يجب علينا ألا نفكر في آلية الانجاز في الوقت الذي نشاهد فيه الفيلم، ويعتبر تساؤلنا عن امكان سوكوروف الحفاظ على جدول عمله والانتهاء في ثلاث ساعات، نوعا من التفكير الفني. وماذا لو أخطأ أحدهم أو تحطم القرص الصلب المستخدم لتسجيل الصور؟ ولكنك حتما ستجد نفسك في وسط أسئلتك عن كيف تم انجاز هذا العمل، ومثل هذه التأملات هي بالتأكيد ذات صلة بالفيلم كتجربة.

ان فيلم Russian Ark يمثل عمل ولاء في سينما معرضة للخطر، فهو حدث فيلمي يقدم نفسه على انه ليس اقل تميزا من الأداء المسرحي الذي يشارك فيه الجميع. القليل من الأفلام تطالب بمثل هذا النظام أو مثل هذا الاحساس اللحظي. وهكذا ففي الوقت الذي يستدعي فيه هذا الفيلم الزمن كسيل تجريدي، فإن ما يجعل التجربة واقعية هو الدورة ذات التسعين دقيقة التي لا تتكرر والتي تنتج الفيلم. الجدل المعتاد بشأن التصوير باستخدام أجهزة رقمية هو أنه يمكن انتاج اكبر عدد ممكن من الصور بقدر ما هو ضروري ثم القيام بتحريرها كيفما تشاء: انظر مثلا الى افتتاح فيلم Open Hearts الذي تم في أوائل أبريل/نيسان الماضي، سترى التقطيعات الكثيرة والانطباع بوجود قوة عاطفية غير ناضجة. ولكن سوكوروف يستخدم أجهزة الفيديو الرقمية بطريقة تجعل شبكة التحرير الآمنة تختفي، والاحساس بالعامل الوقتي يستبدل بالرسميات الصارمة التي تنعكس في المراسم المتنوعة المصورة في الفيلم مثل الرقصات، والمسيرات، والزيارات الرسمية. ولكن الغريب هو ان الفيلم يحتفي بالقانون الكنائسي للفن الكلاسيكي، كما ان الفيلم نفسه يبدو حديثا. فيلم Russain Ark هو حقا سجل لقطعة خالدة للفن المسرحي المحدد الموقع.

هذا فيلم رائع، وعلى رغم انه اعطي موقعا محددا كما تم تزويده بوفرة من التأثيثات المهيبة، فإنه من الصعب ان يتم بشكل معاكس لذلك. ان استخدام أجهزة الفيديو الرقمية يخلق احساسا واضحا بجوهر الشيء، والأراضي الواسعة والأقمشة المطرزة التي تأخذ شكلا ملموسا ثلاثي الأبعاد. الفضاء أيضا يصبح مرنا بشكل غريب مثل الوقت، فالأروقة تمتد أمام عينيك وتتشوش بطريقة ما. كما ان استخدام الصوت جدير بالملاحظة أيضا، إذ يصبح الدير كحوض زجاجي واسع ذي أصداء طيفية. صوتا كستين والراوي منفصلان بشكل غريب في التسجيل الصوتي للفيلم، فصوت سيرجي درايدن غريب ويبدو كدمدمة موسيقية، ويشبه همهمة وايقاعا مرتجلا - بينما تصبح الأصوات حولهما همسات مختلطة تبدو كضباب عائم، وكخشخشة ووقع أقدام مدعومة بالصرير المرتد الذي يسمع عن بعد والذي يصدر من البيانو القيثاري.

ولكن بطريقة ما وبقدر ما هو غامر هذا الفيلم، فإنني وجدت من الصعب تماما ان اتخلى عنه، وأن أشعر بما هو أكثر من الاعجاب المستقل. عند نقطة ما وعندما تنبأ الماركيز قائلا بطريقة جافة «سيتلو هذا ملل رهيب»، فإنه لم يكن مخطئا تماما، وعلى رغم ان تعليقات كستين أطلقت بنبرة ساخرة أنيقة، فإن سوكوروف قدم إلينا التعليقات الأكثر تفاهة عن الروح الروسية، إذ قال إنه ليست هناك أفكار أصلية في روسيا لأن السلطات لا تسمح بذلك، وإن روسيا جاهزة تماما لقبول أخطاء الغرب، وإن بيتر الأعظم علم الروس كيف يمتعوا أنفسهم. ويعتبر التعليق الذي يختم به الفيلم اكثر هذه التعليقات تفاهة وهو يتعلق بمصير هذا الشعب، إذ يقول فيه: «مصيرنا هو ان نبحر الى الأبد، وأن نعيش الى الأبد»، وحتى الصورة التي ترافق هذا التعليق تختم الفيلم بلياقة وغموض وتجعل المشهد منافسا لأي من المشاهد الختامية لتاركويسكي. ويكون هذا المشهد تابعا لمشهد هجرة جماعية رائعة من الحفلة الملكية الأخيرة في العام 1913. نرى طاقم التمثيل الذي يتكون من الآلاف والذي يضرب به المثل بعمل استعراض عسكري حول سلالم مبنى الدير المزخرفة بكعك العرس إذ يبدو وكأن جميع الموتى الروس هنا، وقد قررت مصائرهم.

ان فيلم Russian Ark يستحق المشاهدة، ويستحق ان يناقش فيما يتعلق بالطريقة التي يفتح بها فصل جديد في تاريخ زمن الفيلم ومكانه. ولكن بطرق ما اجد من الصعب اخذ الفيلم مأخذ الجد كما يريد المخرج له ان يكون. لتسموني طائشا ولكنني وجدت نفسي مذهولا من المشهد، الذي يبدأ قبل ثلاث دقائق من نهاية الفيلم، والذي يصور رجلا يرتدي نظارات حديثة لا يمكن ان تخطئها العين. لا استطيع إلا ان اتساءل عن مدى القرب الذي يصرخ به سوكوروف «حسنا، ليتحرك الجميع ابتداء من القمة».

خدمة الاندبندنت - خاص بــ «الوسط

العدد 247 - السبت 10 مايو 2003م الموافق 08 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً