لعل كثيرا من المراقبين لم يتوقع المعارضة الشديدة لقانون الأحوال الشخصية، ولكن الواقع ان هذا الأمر قديم والحوارات كانت ومازالت غير مكتملة وغير واضحة بين الاطراف. بداية فإن التشريع الاسلامي كان هو السائد في البلاد الإسلامية في صدر الاسلام، وكانت الاحكام تغطي العبادات (علاقة الفرد بربه) والمعاملات (علاقة الفرد بالآخرين في المجتمع). والمعاملات لها دائرة تتعلق بالعائلة (علاقة الانسان بأفراد أسرته ومايتعلق بالاحوال الشخصية) والمجتمع (علاقة الانسان بالآخرين). ومع الأيام تراجع تطبيق الشريعة في غالبية الشئون المتعلقة بالمجتمع ولكن بقيت أحكام الشريعة تطبق في بعض البلدان في دائرة العائلة، أو ما يسمى بالاحوال الشخصية.
ومنذ صدر الإسلام كان هناك نوع من الحساسية من كتابة قانون للأحوال الشخصية أو غير الشخصية، وهذا الأمر لم يختص به أتباع مذهب دون آخر. فعندما طلب أحد الخلفاء العباسيين من الامام مالك بن أنس كتابة أحكام فقهية للاستعانة بها كتب كتابه المعروف بـ «الموطأ» ولكن بعد ان أكمل الكتاب رفض ان يقوم الخليفة العباسي بفرضه على ارجاء الدولة الاسلامية متعللا بأن فقهاء المدينة والكوفة وغيرهم لهم آراؤهم ايضا وهم ملزمون بما يؤمنون به.
وهذا هو اساس الاشكالية المطروحة ايضا في زماننا الحاضر. فالقاضي الاسلامي كان تاريخيا أحد الفقهاء العدول الذين يعملون أصلا برأيهم بحسب اجتهادهم، وهذا ما أطلق عليه البعض بمركزية «حكم القاضي» في المجتمع الاسلامي (في مقابل مركزية مؤسسة القضاء).
القضاء في الاسلام ليس فقط المحاكم التي كان يرأسها الفقهاء وانما ايضا كان هناك «ديوان المظالم» و«المحتسب» ومع الايام تعقدت الأمور فلجأت المجتمعات الاسلامية إلى «مجلس التجار» لحسم الخلافات بين التجار، وإلى «مجلس العائلة» لحسم الامور بالاتفاق، و«مجلس الاوقاف» لحل الخلافات المتعلقة بالاوقاف الدينية. واستمر هذا الوضع من دون تحد كبير حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأت الدولة العثمانية وعدد من البلدان المسلمة باستشعار درجة النقص لدى الأنظمة المتبعة لديهم مقارنة مع الدول الاوروبية. وكانت المحاولات الاولى هي التي قادها اشخاص مثل رفعت الطهطاوي لترجمة القوانين المدنية الفرنسية إلى العربية وكان لها الأثر الاكبر فيما حصل ويحصل حاليا في البلاد الاسلامية.
بعد ذلك حدثت طفرة في مصر والدولة العثمانية وظهرت دعوات متواصلة إلى الأخذ بأسلوب القوانين المكتوبة والمتفق عليها لكي تستعين بها المحاكم. وكان من بين الذين ترجموا القوانين عدد من طلاب العلوم الاسلامية، اذ كتبوا عددا من الاحكام الخاصة بالمعاملات ومقاربتها مع الشريعة الاسلامية ولكن على الطريقة الفرنسية في كتابة القوانين.
هذا الطرح المدني للقوانين يتعارض مع مفهوم تسلم الفقيه مسئولية القضاء واصدار الاحكام بحسب ما يستنبطه شخصيا من احكام. ولذلك فإن كتابة قوانين بأسلوب مدني وثم مطالبة القاضي بتنفيذها ربما يتعارض مع المفهوم السائد لدى المجتمعات الاسلامية في صدر الاسلام.
وعلى هذا الاساس كان هناك فقهاء (من الشيعة والسنة)، وهناك مقلدون من (الشيعة والسنة). والفقهاء الكبار لدى السنة تم حصرهم في اربعة ائمة رئيسيين والآخرون تابعون لهذه المدرسة أو تلك، اأما الشيعة فالفقهاء الموجودون حاليا يعطون مقاما مساويا أو قريبا من الفقهاء الماضين.
بعد سقوط بغداد على يد المغول في العام 1258م اتبع علماء السنة والجماعة نهجا اعتبر ان باب الاجتهاد اغلق (بصورة عملية) وان ما لدى المسلمين من احكام يمكن اعتمادها والتأسيس عليها. كان هناك فقهاء آخرون لم يؤمنوا بغلق باب الاجتهاد وأهمهم ابن تيمية الذي عاش بين 1263م و1328م وهو الذي طرح مفهوم «مجتهد في المذهب» لانه كان حنبليا في الأساس.
في الفترة نفسها كانت هناك ايضا نقلة نوعية في الفقه الجعفري على يد المحقق الحلي (المتوفى في 1277م) وابن اخته العلامة الحلي (المتوفى في حوالي 1326م). ومنذ عهد ابن تيمية والحلي فإن الفقهين السني والجعفري اتخذا مواقف حاسمة تجاه عدد من القضايا المتعلقة بالتشريع الاسلامي في الحياة الخاصة والحياة العامة. وكثير من المعاصرين ينظر إلى استمرار الشريعة الاسلامية في الحياة الخاصة على ما هي عليه يعتبر ضمانة - ولو محدودة - لاستمرار تطبيق الشريعة بعد ان تراجع التطبيق في الحياة العامة.
وعلى رغم ان علماء الدين المخلصين يعلمون بكثير من المشكلات التي يتعرض لها المواطن البحريني هذه الايام في المحاكم الشرعية فإن الحلول لديهم مازالت تختلف عن الحل الذي يطرحه دعاة قانون الاحوال الشخصية.
دعاة قانون الأحوال الشخصية يعتبرون القانون الضمان الوحيد للمواطن عندما يحتاج إلى المحاكم الشرعية وذلك لعدم انضباط بعض القضاة وللطريقة السائبة والخاضعة لاسلوب هذا القاضي المختلف عن أسلوب ذلك القاضي.
فالغالبية العظمى من القضاة هذه الايام ليسوا فقهاء، بل انهم رجال دين بمستويات مختلفة يتم تعيينهم من قبل السلطة السياسية. واذا كان القاضي ليس فقيها كما هو الحال في صدر الاسلام، ومعينا من السلطة السياسية (الزمنية)، فلماذا لا يتم استخدام الاساليب الزمنية الحالية لتنظيم شئون الناس الخاصة؟ هذا هو احد مداخل دعاة قانون الاحوال الشخصية. ولعلنا بحاجة إلى مزيد من الوضوح في طرح هذه المسائل لكي لا ندخل في متاهات نحن في غنى عنها. فاما ان يعود القضاء إلى سابق عهده الاول كما كان في الصدر الاول عندما تسلم القضاء فقهاء عدول مستقلون واما ان يتم تنظيم القضاء بوسيلة ما تلبي متطلبات الشريعة الاسلامية من جانب، ومن جانب اخر تضمن للمواطن قضاء عادلا وسريعا في الاحوال الشخصية
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 247 - السبت 10 مايو 2003م الموافق 08 ربيع الاول 1424هـ