المشهد العراقي الراهن، يكشف عن ثلاث قوى رئيسية معنيّة، في البحث عن ترتيب الصورة، التي تبدو، في حال اهتزاز، حتى تنكشف الحوادث الآتية، وهي على وتيرة سريعة عادة في زمن الحرب وما بعدها ومرشحة لاحتمالات، التوتر والاستقرار، على قدر تصرف أصحابها في إدارة الحوادث على مستويات كثيرة، ولذلك فإن المشهد العراقي، يرتكز الى صور القوى الآتية:
- قوى الاحتلال الأميركي - البريطاني.
- قوى المعارضة العراقية، بكل فصائلها وتنوعات هذه الفصائل ومصادر نفوذها ومستوى تمثيلها الشعبي.
- القوى المشتتة للنظام العراقي البائد، والإرث الثقيل الذي خلفه، بعد سقوطه السريع والملتبس.
ومراقبة هذا المشهد، تفترض مراقبة العلاقات والتحولات في حركة هذه القوى داخل مشهد الحرب وما بعدها.
هذا بخصوص المشهد الداخلي العراقي. لكنه لا يمكن أن يكون معزولا، عن المشهد الإقليمي والعالمي المحيط به، لأن الحرب في القرن الحادي والعشرين، ليست مواجهة محدودة في مكان وزمان معنيين، بقدر ما هي، نقطة ملتهبة، في ساحة عالمية واسعة الأطراف.
تلعب هذه القوى في ساحة مكشوفة، وهي قد تسعى الى ستر أوراقها لضرورات معينة، لكنها غير قادرة على الحركة في العتمة، ان أضواء الإعلام، وطبيعة اللعبة السياسية تفرض كشف ما تستره الى حين، ولذلك يفترض محاكمة المواقف المعلنة، باعتبارها مفتاح المواقف المستورة، ان الوضوح علامة من علامات الوصول الى الأهداف، وعليه يجوز محاكمة المواقف من خلال المعلن، ولا ضرورة لتأويل الباطن، إذا كان الظاهر جليا، فإن من طلب الوضوح غاب واختفى.
لقد حققت قوى الاحتلال الأميركي البريطاني انتصارا صريحا وسريعا في حربها على النظام العراقي، وهذه المسألة، لم تعد محلا لتقديرات أخرى بصرف النظر عن مصير قيادات هذا النظام، أحياء فارين، أو قتلى تحت الأنقاض، وعليه فإن البحث يتجه الى مراقبة المشروع الأميركي - البريطاني من حرب العراق، وأين يندرج في سياق الاستراتيجية أصحاب هذا المشروع، وفي هذا البحث اتجاهان:
- حصر الحرب ونتائجها في الساحة العراقية من خلال تنفيذ ما طرحته إدارة الحرب من مشروعات متعلقة بهذا البلد من خلال الوصول الى تحقيق كل ما أعلن عن أهداف الحرب عراقيا من إسقاط النظام، إلى تدمير أسلحة الدمار الشامل المزعومة، الى بناء نظام جديد ديمقراطي تعددي، إلى إعادة إعمار العراق، واستثمار ثرواته الوطنية، الى خلق نموذج يحتذى به، الى توجيه رسالة (القوة العالمية الجديدة، التي لا تقهر، إلى كثير من المشروعات التي ظهرت في التصريحات والخطابات المعلنة لقادة التحالف وإلى دراسات مراكز الأبحاث المختصة عن مستقبل العراق ودور قوى التحالف وإلى دراسات الابحاث المختصة عن مستقبل العراق ودور قوى التحالف الأميركي - البريطاني فيه، ناهيك عن تعدد المشروعات، بتعدد أصحابها في مراكز القرار داخل الإدارة الأميركية وحلفائها، وإلى دراسات مراكز الابحاث عن مستقبل العراق ودور قوى التحالف من المشاركين في الحرب.
الاتجاه الثاني في مشروع التحالف، يقوم على اعتبار الحرب على العراق، مرحلة أولى من مراحل لاحقة لحروب مشابهة في المنطقة وفي العالم، يكون الدرس العراقي مثالا لها، أي ان «عزة الإثم بالقوة» مندفعة الى أقصاها، وهي ستتابع حروبها انطلاقا، من المحطة العراقية الى محطات أخرى، وثمت شعارات مشابهة، ومختلفة، تجد هذه القوة، في هزيمة النظام العراقي السريعة، مسوغا للانقضاض على دولٍ أخرى، كانت قد صنفت في خانة «محور الشر» إلى غير ذلك من التصنيفات التي أطلقها بوش وإدارته، بعد حوادث 11 سبتمبر/أيلول.
القوة الثانية في المشهد العراقي، هي قوى المعارضة وكيف تتصرف في هذا الظرف الدقيق من تاريخ البلاد. لا شك ان الشعب العراقي تخلص من حكم استبدادي دموي، دمّر البلاد وعرضها للمخاصر التي تجد نفسها الآن في أتونها الملتهب، وقدم ضحايا، قل لشعب أن قدّم مثلها في التاريخ الحديث.
وهي الآن تخلصت من هذا النظام. لكنها على طريقة ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، فكيف عليها التصرف في ظل بلاد ترزح تحت الاحتلال وفقدان النظام والتركة لا شك ثقيلة، لكن العقل السياسي قادر على التعامل معها إذاعرف أن يوجه مواقفه باتجاه البوصلة السليم.
واتجاه البوصلة السليم يقود الى الاختيارات الآتية:
1- الحفاظ على وحدة العراق، ورفض أي شكل من أشكال تقسيمه مع التركيز على اعتبار هذا الاختيار لا رجوع عنه، تحت الظروف كافة وهو غير قابل للتفكير فيه أو تطبيقه.
2- إقامة سلطة عراقية جديدة متعددة، وممثلة حقيقة لقوى الشعب العراقي وفئاته، سلطة منبثقة من الشعب، وممثلة حقيقية لقواه الحية، وللتعددية فيه، على القواعد الديمقراطية وقبول الآخر.
- حتى تستطيع قوى الشعب العراقي تحقيق هذين الهدفين يلزمها الحفاظ على الوحدة، والتعاون وعدم الانجرار الى خلافات داخلية قد تدمر العراق الراهن وتبقية عرضة لاحتلال مديد. بعد هذه البديهيات في توجه الشعب العراقي الراهن يلزم التعامل مع حقيقة واقعية قائمة على وجود الاحتلال، كيف التصرف حيال هذه المسألة الخطيرة.
يلزم التصرف على مرحلتين:
المرحلة الأولى: تقوم على مطالبة الاحتلال بتسريع انسحابه، وتنفيذ وعوده المعسولة باعتبار «عملية التحرير والخلاص من النظام الاستبدادي بدأت» تعني هذه العلاقة أن التباسا ما، صعب الإدارك يقوم على كيفية إدارة العلاقة باتجاه قيام نظام وطني وانسحاب الاحتلال، وفي ظل عملية سياسية معقدة، تحكم بطبيعتها، هذه المرحلة الانتقالية الصعبة، وتستطيع المعارضة من خلال وحدتها، وحركتها الإيجابية أن تقلص من الخسائر المعنوية والمادية لهذه الفترة الصعبة وفيها يجب رفض أي شكل من أشكال الحكم العسكري الأميركي المباشر مع مرونة في التفاوض بخصوص الدور الأميركي فيما يسمى إعادة الإعمار.
من الصعب أن يقبل الأميركي المحتل أن «يحرث ويدرس من نأجل بطرس» لكن كلما كانت قوى المعارضة قوية وموحدة، كلما استطاعت أن تخفف من نتائج الخسارة المعنوية والمادية، في المرحلة الانتقالية، وهي إذا تصرفت بحكمة وذكاء، ومرونة وتمسك بالمبادئ الوطنية والدينية، فرضت على الاحتلال التراجع، وكسبت تأييد الرأي العام العالمي لجانبها، وهو موقف تحتاج إليه للتخفيف من وطأة المرحلة. إن المطالبة بتدخل المجتمع الدولي والأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، بما فيها المنظمات العربية والإسلامية، استطاعت ان تمرر هذه المرحلة بأقل الخسائر الممكنة. إنه موقف ملتبس من دون شك، لكنه واقعي الى أبعد الحدود، والواقعية تقتضي التعامل معها من دون إدارة الظهر إليها، ومن دون تحويلها الى حال دائمة، تريح الاحتلال وتطوّل اقامته في البلاد. إن هذه الحال إدارة مقاومة مدنية للاحتلال، والثبات في رفضه، وتسلم البلاد منه بأسرع وقت ممكن.
المرحلة الثانية: متوقفة على تصرف قوى الاحتلال نفسها، التي تضطر إلى كشف أوراقها كافة، فإذا كانت تريد البقاء والسيطرة، فإن واجب الشعب في هذه الحال مقاومتها. إننا إزاء مرحلة مختلفة من حيث الواقع وقوانين العمل فيه، والعراق بلد عريق، يصعب ابتلاعه بسهولة فإذا استطاعت قوى الاحتلال ان تهزم النظام الاستبدادي فإنها غير قادرة على هزيمة الشعب المقاوم. إن احتلال بلاد أمر في غاية الخطورة، وثبات الاحتلال أمر له قوانينه الخاصة، ولذلك فإن الاحتلال الدائم يولد مقاومة مشروعة ستجد في العراق أرضا صلبة وخصبة، قادرة على هزيمة المحتلين الجدد.
إن دور المعارضة الآن، هو إقامة حكومة وطنية جديدة، تنتقل بسرعة الى المطالبة، برحيل الاحتلال، وتقرر مع قوى عالمية، بما فيها أميركا وبريطانيا إعادة الاعمار، وإقامة علاقات حفظ السيادة والكرامة الوطنية هذه خاصية المرحلة الانتقالية التي يجب ألا تطول تحت كل الظروف لكن إذا تكشفت الأيام عن اهداف اخرى فان المقاومة ستكون هي الردّ وسيدخل العراق والمنطقة، في مواجهة جديدة ترتكز الى معطيات المشروع الاميركي وأورقه المخفية.
إن حكومة عراقية وطنية وديمقراطية جديدة، يجب ألا تكون ظلا لقوى الاحتلال، ولا تمكنه من استخدام العراق لأهداف معروفة في المنطقة، وعليه فإنه يتوقف على تصرف الشعب العراقي وقواه الحية، لا مصير العراق وحسب بل مصير المنطقة برمتها، إن العراق الآن، محطة مؤهلة للانطلاق في اتجاهات عدة، ويتوقف على قوى الشعب العراقي المجاهد، تحديد هذه الاتجاهات.
- ما تعلق بقوى النظام البائد، فإن صورته تبدو كشيء من الماضي، كشيء كريه، لا قبول لوجوده في العراق الجديد، ولذلك فكل محاولة لإعادة دخول قوى النظام من النافذة بعد هروبها من بوابة بغداد الكبيرة، عملية لن يقبلها الشعب العراقي، لأن من جرّ العراق الى هذه الويلات يلزم طرده ليس من واقع الشعب العراقي ولكن من ذاكرته المليئة بالآلام والمآسي. وهذا الرفض مرتبط بطبيعة النظام، ولا يجب عدم الضرر بما يمكن دعوته بالتعددية السياسية في عراق المستقبل.
هل يرسم هذا المشهد صورة متفائلة، وهل يكون ذلك على طريقة تصديق ما جرى كأنه عملية مقتصرة على الساحة العراقية ذاتها، من دون امتدادها الى المحيط الاقليمي، والى الاوضاع الدولية؟
سيكون الانسان ساذجا إذا ركن إلى هذا التصوّر، لكن التعامل مع الواقع، يفرض، على طريقة العقل، تقسيمه الى مراحل، والمرحلة الآن هي المشهد المشار إليه، وإذا ما تعدت صورته الى مشهد آخر فإن العالم سيكون فعلا، وكما ترغب الإدارة الاميركية، مقاد الى حافة الهاوية. ولذلك حسابات اخرى، لن تكون في مطلق الأحوال، لصالح صانعي هذا المشهد العالمي الخطير
العدد 246 - الجمعة 09 مايو 2003م الموافق 07 ربيع الاول 1424هـ