الجمعيات السياسية بدأت تتعثر، والمناصرون للجمعيات بدأوا يتعبون. هذا ملخص ما يمكن للمرء مشاهدته عندما يحضر ندوة دعت إليها هذه الجمعية أو تلك، وما يمكن قراءته من تحركات رموز الجمعيات حول هذا الأمر أو ذاك.
بدأت مرحلة الانفتاح بالتفاف جماهيري حول الجمعيات التي كانت ممنوعة من ممارسة النشاط السياسي لدعم هذا المرشح أو ذاك. ثم بعد ذلك سمحت الحكومة قبل فترة وجيزة من الانتخابات النيابية للجمعيات بترشيح الأشخاص، ولكن ذلك لم يغير من واقع الأمر كثيرا.
بعض الجمعيات السياسية تشكلت عبر «استعادة» الماضي. فكل حزب أو اتجاه سياسي شكل جمعية اتخذت اسما غير اسم الحزب أو الاتجاه السياسي السري، ولكن الرموز والأفراد هم ذاتهم الذين كانوا ينشطون داخل هذه المجموعة وتلك. ولذلك فإن المرحلة التأسيسية كانت مرحلة إشهار التنظيمات السياسية ضمن تشكيلات أهلية تابعة لسجل وزارة العمل الخاص بالجمعيات الأهلية.
والجمعيات السياسية مازالت من الناحية الرسمية تعامل مثلها مثل غيرها من الجمعيات الأهلية، ووزارة العمل لم تغير وجهة نظرها إلا فيما يتعلق بتبني هذه الجمعية أو تلك مرشحا لانتخابات ما.
عدد من الجمعيات السياسية أسس مقرا ويعقد اجتماعات أسبوعية أو دورية ويصدر نشرات باسم التجمع، ولكن الهيكلية المتبعة هي هيكلية جمعيات طوعية وليس هيكلية حزب سياسي. فالحزب السياسي يحتاج عدة عوامل صارمة لكي يتحول إلى حزب، إذ يحتاج اولا الى خطة عمل أو برنامج حزب تجاه القضايا العامة الرئيسية. وهذه الخطة أو البرنامج يجب أن ينبع من نقاشات بين الرموز الفكرية والسياسية المؤثرة في هذا الاتجاه أو ذاك، ومن ثم تعرض للموافقة على الهيئات المختصة للحزب.
وطرح أي برنامج يحتاج طاقة فكرية وأعمالا جبارة لإقناع الآخرين في الحزب بالطرح، بحيث ينتمي الفرد من أجل فكرة وليس من أجل «استعادة الماضي» أو من أجل «مناصرة الطائفة» أو من أجل «تمجيد» هذا الشخص أو ذاك. وإلى حد الآن لا توجد جمعية سياسية طرحت برنامج عمل لأعضائها أو أنصارها بصورة معمقة، ولا توجد هناك خطط واضحة والأمور تسير على ما هي عليه بحسب الدافع الذاتي الموجود داخل هذا الاتجاه أو ذاك.
ثم إن الحزب بحاجة إلى قائد يستطيع اتخاذ قرارات حاسمة لتسيير العمل باتجاه معين يتوافق مع البرامج المعلنة والمتفق عليها، وهذا هو العامل الثاني المهم بعد اعتماد البرنامج.
أما العامل الثالث فهو وجود جهاز تنظيمي انضباطي داخل الحزب لتنفيذ قرارات قيادة الحزب وتوجيه الطاقات عبر الحث أو المعاقبة بالفصل أو التجميد كما هو الحال في الأحزاب السياسية التي تحكم أو تعارض في عالم السياسة.
ولكي يستطيع الحزب امتلاك قدرات توجيهية وتنظيمية فإنه بحاجة إلى تمويل، وهذا هو العامل الرابع الذي من دونه لن يستطيع الحزب تحريك ساكن. ومسألة التمويل خطيرة، لأنه بإمكان الأغنياء أن يسيطروا على التحرك السياسي من خلال تمويل هذا الحزب أو ذاك. ولذلك فإن بعض البلدان تطلب إشهار أسماء الذين يتبرعون للحزب بمال أكثر من قدر معين (مثلا أكثر من ألف دينار). وإعلان أسماء المتبرعين يوضح مسار الحزب للناس، وفيما إذا تأثر بتبرعات هذا المواطن أو ذاك. وهناك بعض البلدان تفرض دفع مال للحزب من موازنة الدولة، على شرط أن يحصل الحزب على نسبة معينة من الأصوات (مثلا على الأقل 5 في المئة)، وبعد ذلك يتم تخصيص المال بحسب معادلة تعكس شعبية هذا الحزب أو عدم شعبيته في الانتخابات.
الأحزاب السياسية التي من شأنها الحفاظ على المال العام يتركز النظر عليها لكشف سلامة مصادرها المالية، ومفهوم «من أين لك هذا؟» ينطبق على الحزب قبل انطباقه على المسئولين في الحكومة. وهنا ما يفسر ضمور بعض الجمعيات المتمكنة ماديا من العمل في أوساط الشعب بشكل يناسب إمكاناتها، لأن هناك أسئلة توجه إليها عن مصادر المال للقيام بما يقومون به.
إن نظرة متفحصة لوضع جمعياتنا السياسية يوضح أنها مازالت بعيدة كل البعد عن القيام بدور حزب سياسي، سواء سمح لها القانون بذلك أم لم يسمح. والجمعيات الكبرى التي لها أتباع كثيرون يتورطون أكثر، لأن الجمهور الكبير من دون تنظيم قوي يوازي حجمه يعني الشلل التام لهذا الحزب أو ذاك. إذ لا يتمكن الحزب من إرضاء هذا الجمهور الواسع والمختلف في أفكاره والذي تجمعه ولاءات عامة وليست اتفاقات تفصيلية على أهداف محددة وبرامج ذات جدول زمني ومعالم واضحة.
ولذلك فإن العمل الناجح حاليا لهذه الجمعية أو تلك هو مقدار الحشد الذي تستطيع حشده. والحشد لا يمكن زيادته إلا بتصعيد اللغة السياسية والشعار السياسي، لأن هذه هي طبيعة التحشيد. وتصعيد اللغة السياسية، يعني إلزام رموز الحزب بما قالوه ويقولونه أمام الحشود. وهذا الإلزام يتطلب اللجوء إلى قدرة هذا القائد أو ذاك، وقوة هيبته (الكاريزما) في تصدر النشاطات الميدانية الخاضعة لحماس الحشد والتحشيد. وهكذا تتحول الجمعيات الأهلية أما إلى حركة جماهيرية تحشيدية وتصعيدية، أو إلى ناد خاص تابع لمجموعة من الناس الذين كانوا يجتمعون سرا والآن استطاعوا الاجتماع علنا، ولا يهمهم ما يدور خارج هذه المجموعة السرية (سابقا) والعلنية (حاليا).
إن الجمعيات السياسية مطالبة بإعادة النظر في هويتها وتركيبتها وطريقة عملها، لكي تستطيع ممارسة دورها كحزب سياسي، فـ «إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم» (الرعد:11)، وإذا كان هدف الجمعيات فعلا هو التحول إلى حزب سياسي، فإن أمامها الكثير لتعمله. أما إذا كانت تشعر بالارتياح بما لديها من حشد كبير من دون وجود تنظيم قادر على تلبية متطلبات الحشد وتوجيهه، أو تشعر بالارتياح لتوفير نادٍ خاص لأعضاء التنظيم السري سابقا، فإنها ليست بحاجة أن تطالب بتغيير القانون الحالي، فالقانون لا يعارض ما تقوم به
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 246 - الجمعة 09 مايو 2003م الموافق 07 ربيع الاول 1424هـ