العدد 245 - الخميس 08 مايو 2003م الموافق 06 ربيع الاول 1424هـ

المتغيرات الدولية بعد الحرب على العراق وانعكاساتها على الاقتصادات العربية

سمير صبح comments [at] alwasatnews.com

.

إذا كانت اجتماعات وزراء مالية الدول السبع الكبرى التي عقدت في باريس يومي 21 و22 فبراير/ شباط الماضي، لم تجذب الاهتمام العربي، «المُبوصل» في حينه على انطلاقة أول صاروخ أميركي باتجاه بغداد، فإنها كانت على جانب كبير من الأهمية، كونها نجحت في تقليص هوة نقاط الخلاف الاقتصادية المتعددة الموجودة، وصولا إلى تحديد جدول أعمال قمة رؤساء هذه الدول الأغنى في العالم، المقرر عقدها برئاسة فرنسا في منتجع «إيفيان» في يونيو/ حزيران المقبل. ومن جهة أخرى - وهو الأساسي - الاتفاق على اتخاذ الإجراءات اللازمة لدعم اقتصاداتها بعد الحرب، بغض النظر عن حدة التباينات التي خرجت عن المألوف بين الحلفاء الطبيعيين.

سيكون إيجاد الحلول المشتركة للتداعيات الاقتصادية المتوقعة لمرحلة ما بعد حرب العراق على هذه الدول الغنية، لُب النقاشات التي ستدور في هذه القمة. فالتعليمات الصادرة على ما يبدو، تتلخص في الخروج بقرارات موحدة حيال كيفية استيعاب صدمات مفاجئة، وإنقاذ الاقتصادات الغربية من البقاء في حالات الركود التي بدأت تأخذ منحى «مقلقا». كذلك، وضع حد للمراهنة على انعكاسات التناقضات في المواقف السياسية على النظام المالي العالمي. فتأكيد ما يسمى «ميثاق الاستقرار» الذي من المفترض أن يحصن ويوازن مالية هذه الدول على اختلاف سياساتها وتوجهاتها الاقتصادية المعتمدة في هذه المرحلة بالذات، دليل على أن انجاح هذه القمة أمر مفروغ منه.

لقد ترك تراكم المتغيرات الدولية تأثيرات سلبية على اقتصادات الدول الغنية، تُرجمت بزيادات العجوزات في موازناتها واختلالات في مختلف موازينها من تجارية ومدفوعات وغير ذلك، وأدت بها إلى مراجعة نسب نموها، إذ اضطر أحد وزراء دولة أوروبية كبرى إلى الإشارة إلى أن الـ 2,1 في المئة التي سبق وأعلنت في بداية هذا العام، يمكن أن تصل إلى حدود الـ 1 في المئة قبل نهايته. ناهيك عن الافلاسات المتتالية للكثير من كبريات الشركات في بعض الأحيان، والمتوسطة والصغيرة الحجم في أحيان كثيرة. أما التسريحات العمالية وارتفاع معدلات البطالة، فحدث ولا حرج، كل ذلك في ظل حالات من التردد والاحجام عن الاستثمار. ينبغي التذكير أيضا، أنه حتى ولو كان التاريخ لا يعيد نفسه دائما، فإن عودة التضخم من شأنها أن ترفع معدلات الفائدة وتضاعف من الانكماش الذي يسيطر حاليا على الاقتصاد العالمي.

فإذا كانت انعكاسات المتغيرات الدولية على اقتصادات الدول الغنية وتجمعاتها الإقليمية على هذا النحو من الصعوبة، فكيف سيكون الحال بالأحرى بالنسبة إلى اقتصادات العالم العربي، الفقيرة منها والغنية. وقدمت التقارير الصادرة في الأشهر الأخيرة عن عدد من مؤسسات مختصة ومكتب دراسات في هذا المجال صورة قاتمة مع الأسف عن مستقبل التنمية فيها، حتى ولو كان بعض الأرقام والإحصاءات مبالغا فيه. على أية حال، لسنا هنا بصدد مناقشة المسألة من هذه الزاوية. لكن - باختصار - يمكن القول إن الانعكاسات السلبية للمتغيرات الدولية على اقتصادات البلدان العربية لم تبدأ من الحرب الأخيرة على العراق، بل منذ حرب الخليج الثانية في بداية التسعينات التي أدت إلى تراجع اداءات الدول، الغنية منها والفقيرة على السواء، بحيث فرضت ديونا وأعباء على الأولى، أفضت إلى إحداث عجوزات مزمنة في موازنات الغالبية منها، لم تخرج منها على رغم ارتفاع أسعار النفط في السنوات القليلة الماضية. كما دفعتها إلى إعادة النظر في مشروعاتها وبرامجها التنموية، إضافة إلى تراجع ملحوظ في القدرة الشرائية لمواطنيها. أما الأخرى الفقيرة، فقد ازدادت فقرا، وتزايدت في الوقت نفسه حدة مشكلاتها الاجتماعية وتوجهها أكثر فأكثر إلى الاستدانة وتحميل اقتصاداتها فوق قدراتها.

في ظل هذا الواقع جاء المتغير الجديد مع حرب العراق واحتلاله، ويفهم من تصريحات المسئولين الأميركيين أنه سيطول بعض الشيء، ما يعني استمرار حال التأزم الإقليمي بكل ما تحويه في طياتها من مؤشرات انكفائية على المستوى الاقتصادي. فعدوى الركود الاقتصادي العالمي بدأت تنتقل إلى العالم العربي، ذلك على رغم محاولات المسئولين التقليل من حجمه وخفض توقعاته. فبعدما روّج بعض المسئولين الكبار في العالم العربي لعودة سريعة للانتعاش الاقتصادي للمنطقة بمجرد سقوط النظام في العراق وانتهاء الأعمال العسكرية والتسريع ببناء بنيات هذا البلد المدمرة، واستفادة شركاته من الفرص، عاد هؤلاء أخيرا إلى خفض سقف تفاؤلهم، مكتفين بالإشارة إلى أن حجم التأثيرات السلبية على اقتصادات بلادهم سيكون محدودا، من دون إعطاء تفاصيل بهذا الشأن مدعومة بإحصاءات أو أرقام ذات صدقية. وقد ورد في أحد التقارير التي أعدتها مؤسسة أوروبية رسمية كبرى لدعم الصادرات أن إحدى الدول العربية لجأت إلى تزوير بعض الأرقام المتعلقة بمؤشرات الاقتصاد الكلي، في حين استمرت أخرى في تقديم معلومات غير دقيقة عن عائداتها من الهيدروكربورات.

على رغم الضبابية المسيطرة على الأوضاع الاقتصادية العربية جراء المتغيرات الدولية، من المفيد لفت النظر إلى أن هذه الانعكاسات تختلف من منطقة جغرافية عربية إلى أخرى نظرا إلى بعدها أو قربها من بؤرة التوتر التي مازالت حتى الساعة متمثلة في العراق، كما تختلف من قطر إلى آخر ضمن المنطقة نفسها لناحية غنى أو فقر هذا القطر، ولاعتماده سياسات استباقية لاحتواء الصدمات أو إدارات الأزمات.

الاقتصادان المغربي

والليبي... نموذج تعاون

على رغم تجاوز عقدة «المجهول العراقي» التي سيطرت على تفكير أصحاب القرار في دول المغرب العربي لأكثر من ثمانية أشهر، فإن حال القلق من استمرار انعكاساتها لاتزال قائمة ولو بأقل حدة ممكنة في دول المشرق العربي.

نبدأ بالمملكة المغربية، إذ يرى المحللون الغربيون أن هذا البلد سيواجه لأسباب ليست سياسية فحسب، بل أيضا اقتصادية واجتماعية، في المدى القصير، تداعيات هذه الحرب بشكل أكبر من جيرانه المغاربيين. ذلك، بغض النظر عن الضعف النسبي لمبادلاته التجارية مع العراق. هذا، بالمقارنة، على سبيل المثال مع تونس التي نجحت في استيعاب التأثيرات السياسية بمواكبتها للتحركات الشعبية، التي لم تقمعها على غرار ما حصل في بعض الدول العربية، مثل مصر والأردن. إلا أن أبعاد الانعكاسات الاجتماعية - الاقتصادية يمكن أن تكون جد مؤذية إذا لم تتمكن هذه الحكومة من إخراج الاقتصاد من شرنقته الموضوع بداخلها منذ أكثر من ثلاث سنوات، وإطلاق المشروعات التي اضطلع بها الملك محمد السادس. وترى الدوائر الغربية المتابعة للوضع المغربي أن المشكلات الاجتماعية والهوة التي تفصل يوما بعد يوم فقراء هذا البلد عن أغنيائه، يمكن أن تزداد في حال استمر حال الركود في الاقتصاد العالمي، لاسيما داخل الاتحاد الأوروبي الذي ترتبط معه المغرب باتفاق شراكة. فأكثر ما يخيف السلطات المغربية من هذه المتغيرات، الثمن الذي سيدفع اقتصاديا والذي يمكن أن يشكل صاعق تفجير اجتماعي يصعب معه تصور النتائج مستقبلا. ويراهن الحكم على الولايات المتحدة، الحيف الاستراتيجي التي وعدت، بحسب المعلومات المتوافرة، بتسخير نفوذها وشبكاتها المالية العالمية لمساعدة اقتصاد المغرب والمساهمة في التغلب على تحدياته الاجتماعية، وخصوصا الاستحقاقات المالية المقبلة، ويرى المحللون أن الإسراع في إنشاء منطقة للتبادل الحر بين البلدين، من شأنه امتصاص عدد من الضغوط الداخلية التي تمارس على النظام المغربي.

ومن التداعيات على اقتصادي كل من المغرب وتونس، تراجع المداخيل السياحية بنسبة كبيرة، كذلك حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة التي تعلق البلدان الآمال الكبار عليها لتصحيح موازينها الاقتصادية. ومن الانعكاسات الأخرى التي بدأت تزيد من وطأة الصعوبات، ارتفاع سعر صرف اليورو، وخصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن واردات هذه البلدان من أوروبا تشكل نحو 70 في المئة.

يعتبر الخبراء أن الجماهيرية الليبية المبتعدة أصلا وفعلا عن الشأن العربي وهمومه منذ أعوام عدة، هي الأقل تأثرا بالمتغيرات الدولية بما فيها حرب العراق الأخيرة، بين جميع دول المغرب العربي، ذلك على رغم إرهاصات مسئوليها بين الحين والآخر.

فليبيا الدولة شبه الوحيدة في العالم النامي إلى جانب دولة الإمارات العربية المتحدة غير مدينة للمؤسسات المالية العلنية أو غير الصناديق، كما أن موازنتها أظهرت بدءا من العام فائضا منتظما حتى اليوم، لذلك فهي تراكم عائداتها من النفط والبتروكيماويات، عدا مداخيل استثماراتها الخارجية التي تركزت في الآونة الأخيرة على القارة الافريقية والزيادة المطردة في احتياجاتها بالعملات الأجنبية عدا الذهب، فثبات أسعار النفط في مستوياتها من شأنه أن يعزز الاقتصاد الليبي الريعي ويبقي على وتيرة معدلات نموه والفوائض في موازنته، فالمتغيرات الدولية لم تؤثر سلبا إذن على هذا الاقتصاد.

مصر وسورية... نموذج شرقي

على رغم شبه الاجماع على سلبية الانعكاسات على دول المشرق العربي تحديدا، إذا ما استثنينا منطقة الخليج العربي، فإنه يصعب التكهن سلفا بحجم تأثيراتها في كل من القطاعات المعنية، كما لا يبدو أن التقديرات التي صدرت عشية هذه الحرب وبعد انهيار النظام في العراق عن بعض المحللين الماليين دقيقة، أما التقارير التي تملكها مراكز معلومات عربية ومصارف خاصة كانت كلها دقيقة إلى حد اعتمادها مراجع يمكن الاستناد إليها كليا في عملية التقويم المستقبلية.

وتخضع مصر لامتحان صعب في ظل هذه المتغيرات، لذلك على رغم تحضيرها للمناخات السلبية التي نتجت عن هذه الحرب، فالواضح أن الحكومة المصرية لم تتمكن من استيعاب الصدمات الاقتصادية والاجتماعية بالشكل الذي كانت تأمل فيه، وجاءت الوقائع بالتالي مغايرة إلى حد المقارنة مع السيناريوهات الواردة في الدراسات المقدمة إلى «مؤتمر الاقتصاد العربي في ظل التوترات الراهنة» الذي نظمه مركز معلومات مجلس الوزراء المصري ولم تمنع الإجراءات المتخصصة من قبل الدولة سواء لناحية جعل نظام القطع أكثر مرونة كي يفي بالشروط الجديدة لصندوق النقد الذي تعهد بتقديم مساعدات مالية إلى مصر كي تواجه تداعيات حرب العراق التي خلفت انعكاسات صعبة على السياحة، المصدر الأول للعملات الأجنبية، وأدت إلى زيادة الضغوط على مالية الدولة، فمن المؤكد أن هذه المتغيرات باتجاهها السلبي الحاصل من شأنها أن تزيد مسألة الدين العام لقعيدة كونه لايزال يتجاوز الـ 90 في المئة من ناتج الدخل القومي في حين يستمر العجز في الموازنة في خطه التصاعدي منذ خمس سنوات. ومن أولى التداعيات الجديدة انخفاض متوسط معدل نمو الناتج المحلي مع زيادة معدلات البطالة، وخصوصا بعد إغلاق عدد من فروع الشركات الدولية سواء في المناطق الصناعية أو الحرة. كما بدأت مصر تعاني أيضا من تباطؤ استثمارات الشركات الأجنبية وتراجع البعض عن التزاماته في هذا المجال، ناهيك عن التدخل الذي يقفز معدله بشكل ملفت، في حين تقف الدولة عاجزة عن استيعاب العمالة العائدة بفعل هذه الحرب من منطقة الخليج تحديدا.

أما بالنسبة إلى سورية، فلا يقل التخوف السياسي اليوم عن الخوف الاقتصادي. فقد تزايد هذا الواقع بعد التهديدات الأميركية المباشرة وغير المباشرة الأخيرة، التي يمكن استشفافها مع زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول، لدمشق وبيروت، فتداعيات حرب العراق مقلقة اقتصاديا بالدرجة الأولى. وإذا كانت مالية هذا البلد غير مهتزة، فإن حجم خسارة السوق العراقية تشكل ضربة للاقتصاد السوري الذي يعول منذ أعوام عدة على العائدات منها ليصحح عددا من موازينه. ومع حديث الأوساط الرسمية السورية عن عائدات من التجارة بلغت 1,3 بليون دولار بنهاية 2002، فإن مصادر مصرفية موثوقة أكدت أنها تجاوزت 1,8 بليون دولار. وتشكل مسألة اقفال أنبوب النفط الذي يصل الحقول العراقية بمصفاة «بانياس» خسارة تشكل ضربة قوية للاقتصاد السوري وتعيد الوضع الصعب إلى المربع الأول.

فمن المتوقع أن يتعرض الاقتصاد السوري القائم أساسا على التقشف، والتمسك حتى الآن بنظام الاقتصاد الموجه على رغم الانفتاح الجزئي لبعض قطاعاته، كان آخرها منذ عدة أيام إعطاء ترخيصا لعدد من المصارف التجارية العربية الخاصة بفتح فروع لها في دمشق، لضغوط جوية.

في الختام... أود أن أشير إلى أن هذه المتغيرات الدولية وانعكاساتها الاقتصادية على اقتصادات الدول العربية، لا يمكن أن تكون على قدر من الصعوبة المتوقعة في المرحلة المقبلة لو كان هناك حد أدنى من التكامل العربي بأوجهه كافة، وخصوصا الاقتصادي منه إذا ما أردنا وضع الجانب السياسي على حدة. في هذا السياق، يجب عدم التقليل من أهمية مناطق التبادل التجاري الحر المنوي إنشاؤها وتوسيع رقعتها بين الأقطار العربية. فالأفكار التي طرحت العام الماضي فيما اعتمد على تسميته بـ «إعلان أغادير» (Agadir Process) في هذا المجال، مهمة جدا لتصحيح أوضاع التجارة العربية البيئية، الهزيلة حتى الآن. وهنالك ضرورة لتشجيعها وتفعيلها.

على أية حال، وعلى رغم الأجواء الضاغطة والتشاؤمية اقتصاديا، فإن الأوضاع من هذا الجانب ليست كوارثية، لكنها ليست مشرقة، لذلك، ينبغي على المسئولين العرب كافة أن يدركوا أن مسألة تصحيح اقتصاداتهم وزيادة برامج التنمية، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والقدرات الشرائية لشعوبهم، وتعزيز شأن الطبقات الوسطى، كلها من العوامل الكفيلة بمواجهة التحديات المفروضة في المديين، القصير والمتوسط

العدد 245 - الخميس 08 مايو 2003م الموافق 06 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً