العدد 245 - الخميس 08 مايو 2003م الموافق 06 ربيع الاول 1424هـ

من نصدّق: أميركا أم العالم؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

العالم الآن يمر في فترة خوف من أميركا. العالم خائف من قوة الولايات المتحدة وسياساتها الطائشة وازدياد اعتمادها على «الجيش» لحل الأزمات والمشكلات السياسية في أكثر من مكان في العالم.

العالم خائف من أميركا... وأميركا تدعي الخوف من العالم. وبين المخاوف المتبادلة تسقط الضحايا بالآلاف باسم الدفاع عن مصالح واشنطن وأمنها القومي. وحتى الآن لم تعرِّف الإدارة حدود المصالح ومعناها ومداها لكنها حددت وسيلة وحيدة للدفاع عن تلك «المصالح» المبهمة والغامضة هي «الحروب الدائمة» أو ما تسميه «البنتاغون» الضربة الوقائية (الاستباقية) وهي تعني أن كل دولة معرضة للهجوم إذا ثبت ضدها الدليل أو لم يثبت كما هو حال أفغانستان (اتهمت بضربة 11 سبتمبر/ أيلول قبل ظهور الدليل الدامغ)، أو كما حصل في العراق (اتهم بتخزين سلاح الدمار الشامل على رغم أن تقارير المفتشين الدوليين أشارت إلى عكس ذلك).

العالم إذن خائف من سياسة الإفراط في استخدام قوة الجيش لحل المشكلات والأزمات في وقت تقدم الولايات المتحدة نفسها للعالم بأنها الضحية والمغلوب على أمرها وتعيش هواجس القلق الدائم والتوتر النفسي الناجم عن التهديد الأمني لرموزها في عقر دارها كما حصل معها في 11 سبتمبر.

من نصدق؟ نصدق العالم أم نصدق تصريحات الرئيس الأميركي ونائبه ووزير دفاعه وأطنان من الكلمات الهاذية التي تدل على مسٍّ من الجنون أصاب العقل السياسي للدولة الأولى في العالم.

من نصدق؟ نصدق الكلام الهاذي (المرضي) أم الأرقام التي تتحدث بلغة واقعية لا مجال لردها أو إنكارها.

لعل لغة الأرقام أصدق إنباء من الكلام المجنون الذي يطلق يوميا ضد «أشباح» تهدد أمن الولايات المتحدة واستقرارها النفسي والمعيشي.

ماذا تقول الأرقام؟ في العودة إلى إحصاءات نشرت في 1999 ـ 2000 (قبل سنة من ضربة 11 سبتمبر) عن أهم وأعلى 11 موازنة للدفاع في العالم أشارت نتائج التحقيق إلى الآتي: بلغت موازنة الدفاع في الصين لتلك السنة (1999 ـ 2000) ما يقارب 42 مليار دولار، والهند في السنة نفسها 65 مليارا، وكوريا الشمالية 21 مليارا، وروسيا 60 مليارا، وكوريا الجنوبية 12 مليارا، وتركيا 11 مليارا، وإيران 5,7 مليارات، وباكستان 3,5 مليارات، وفيتنام 9 مليارات، ومصر 3 مليارات، والعراق 1,4 مليار دولار.

وبلغ مجموع موازنات الدول الأولى على مستوى الإنفاق العسكري على الدفاع في تلك السنة (1999 ـ 2000) قرابة 235 مليار دولار. بينما بلغ إنفاق الولايات المتحدة على التصنيع العسكري وموازنة الدفاع في تلك السنة وحدها 292 مليار دولار. أي أن أميركا وحدها تنفق أكثر من 11 دولة صنفت من الدول الأكثر إنفاقا على موازناتها الدفاعية.

حتى دولة مثل روسيا متهمة بأنها الدولة الأولى المنافسة عسكريا للولايات المتحدة تنفق في السنة أقل من معدل إنفاق أميركا على الدفاع في شهرين... أي أن إنفاق واشنطن لحماية «أمنها» يبلغ أكثر من ستة أضعاف إنفاق موسكو على حماية «أمنها» المهدد جنوبا وشرقا وغربا.

هذه الأرقام كانت منشورة ومتداولة قبل ضربة 11 سبتمبر. أما بعد الضربة تضاعفت تلك الأرقام الأميركية حين اتخذت إدارة البيت الأبيض، بتشجيع من البنتاغون، تلك الضربة ذريعة لزيادة الإنفاق على الدفاع والتصنيع العسكري. ففي غضون شهور استغلت شركات الطاقة والصناعات الحربية مشاعر الغضب وسذاجة دافع الضرائب الأميركي فرفعت الموازنة الدفاعية إلى 376 مليارا جاعلة معدل الإنفاق اليومي قرابة مليار ومئة مليون دولار. وتنوي الإدارة الآن إعادة رفع الموازنة الدفاعية في السنوات المقبلة لتصل بعد أربع سنوات إلى معدل يصل إلى 416 مليار دولار سنويا... أي ما يزيد على مليار و200 مليون دولار يوميا.

هذه الأرقام المخيفة التي لم تصل إليها أية دولة في التاريخ ترى إدارة البيت الأبيض أنها ليست كافية لطرد هاجس المخاوف الأمنية من نفوس الشعب الأميركي. بل هناك من المتطرفين (العنصريين) في البنتاغون من يرى أن تلك الأرقام يجب أن تكون دائما عرضة للتعديل نحو الأعلى حتى تصبح الموازنة الدفاعية الأميركية وحدها تعادل إنفاق العالم كله على الدفاع.

والسؤال... ماذا تعني تلك الأرقام العسكرية سياسيا؟ وما هي النتائج المترتبة على تلك الموازنات الدفاعية في سلوك واشنطن الدبلوماسي وعلاقاتها مع الدول ليس في «الشرق الأوسط» بل في أوروبا ومختلف بقاع العالم؟

لا شك في أن الاعتماد على القوة كوسيلة وحيدة لتنظيم التوازن الداخلي وبناء علاقات ثقة مع العالم سيؤدي إلى انهيار النظام الدولي واختلاط أوراقه مجددا. فنمو تيار عسكرة أميركا وتحويل الولايات المتحدة من دولة براغماتية في سياساتها إلى دولة ايديولوجية (كما كان الاتحاد السوفياتي قبل انهياره) سيؤدي إلى مزيد من اعتماد واشنطن على القوة وبالتالي إلى مزيد من الإنفاق على تطوير أدوات القوة إلى أن تصل إلى مرحلة الإشباع. وحين تصل الولايات المتحدة إلى تلك المرحلة تكون قد وصلت إلى فترة الضعف إذ تكون قوتها العسكرية غير كافية لتحصين كيانها السياسي وردم هواجس الخوف (لأن مخاوف واشنطن نفسية ومرضية وليست واقعية) في وقت يكون الاقتصاد في حال سيئة غير قادر على تغطية نفقات الدفاع وغير مستعد للتراجع عن تغذية حاجات الأمن فيحصل ما يشبه الانتكاسة العامة... تذكر العالم بذلك الانهيار الذي أصاب الاتحاد السوفياتي وهو يملك أكبر ترسانة عسكرية ونووية في أيام قوته وجبروته.

إلا أن المشكلة بين الإنفاق العسكري الأميركي على الدفاع وبين الانتكاسة العامة لاقتصادها هناك سنوات فاصلة سيعاني العالم منها الكثير من الحروب (الاستباقية/ الوقائية) التي ستحصل باسم الدفاع عن الأمن أحيانا وباسم السيطرة على مصادر الطاقة والخامات أحيانا أخرى لتغذية حاجات الأمن الدفاعية. فالأمن بحاجة إلى مال والمال بحاجة إلى مصادر ثروة والحصول على مصادر الثروة بحاجة إلى حروب للسيطرة على موارد العالم وموارده الأولية.

إنها حلقة مرعبة تبدأ بالأمن وتنتهي بالحروب، لتبدأ بالأمن مجددا. وبين دورة وأخرى هناك الكثير من التوسع (الامبريالي) الذي بقدر ما يتسع يزداد الضعف وتقترب لحظات الانتكاسة العامة.

إنه الخوف إذن. العالم خائف من أميركا وأميركا خائفة من العالم. والسؤال: من نصدّق؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 245 - الخميس 08 مايو 2003م الموافق 06 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً