هناك رابط بين طرح اللجنة الرباعية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الروسي، والولايات المتحدة) مشروع «خطة الطريق» لحل القضية الفلسطينية وأزمة «الشرق الأوسط» وبين استقالة زعيم حزب العمل الإسرائيلي عمرام متسناع. والرابط هو مؤشر على وجود اتجاه في الدولة العبرية يميل الى رفض «خطة الطريق» على كل سلبياتها وسيئاتها. فالميل نحو التطرف سمة من سمات مجتمعات الاستيطان التي تتأسس أصلا على فكرة الاستيلاء وطرد أصحاب الأرض من قراهم وبلداتهم ومدنهم. فالمستوطن عادة لا يميل إلى المقاسمة والمشاركة وتسكنه في الغالب هواجس القلق والتوتر والخوف الدائم من صاحب الأرض الأصلي. وبسبب تلك المخاوف يميل المستوطن دائما إلى فكرة الطرد وأحيانا الإلغاء وتجاهل الآخر... لأن الآخر يذكره دائما بالذنب، وحتى يتخلص من «عقدة الذنب» يلجأ من دون وعي أحيانا الى قتل ضحيته حتى لا تكون يوما شاهدا على الحقيقة.
عمرام متسناع هو من الرعيل الذي ينتمي الى تيار ضعيف التأثير في حزب العمل يقول بضرورة المقاسمة والمشاركة وتعويض الضحية. وبسبب مواقفه التي لقيت بعض الدعم من قاعدة الحزب وانتخب استنادا إليها لزعامة العمل خاض معركته الانتخابية قبل قرابة ثلاثة شهور ضد زعيم حزب الليكود أرييل شارون وكان نصيب الأول الفشل والثاني النجاح الكاسح.
هزيمة حزب العمل في الانتخابات الأخيرة كانت إشارة من إشارات التحول الحاد في مزاج المجتمع الاستيطاني ودلالة من دلالات ميل الدولة إلى المزيد من التطرف ورفض المصالحة (المقاسمة والمشاركة) مع صاحب الأرض الأصلي.
متسناع حاول في الانتخابات الأخيرة ان يختبر المجتمع الاستيطاني ومدى استعداده للمسالمة والمصالحة من خلال طرح مشروع برنامج يقوم على بعض الأفكار «المعتدلة» من نوع الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة وتفكيك المستوطنات غير الشرعية والدخول في مفاوضات مع السلطة الفلسطينية تنتهي بإقامة دولة تعيش بجوار دولة «إسرائيل».
شارون طرح العكس معتمدا خطة هجومية تركز على الأمن أولا ومكافحة الإرهاب ثانيا واستكمال بناء المستوطنات ومحاصرة الشعب الفلسطيني في مدنه وقراه. وربما تجميعه في مناطق معينة تمهيدا لطرده حين تأتي الفرصة المناسبة.
صوّت المجتمع الاستيطاني لمصلحة مشروع شارون وخذل متسناع وأصيب حزب العمل بأكبر هزيمة انتخابية منذ تأسيسه. إلا ان متسناع لم يتراجع عن مواقفه ومشروعه واعتبر ان الهزيمة مؤقتة بينما المعركة ضد التطرف الاستيطاني مستمرة وتحتاج الى مزيد من الوقت لإعادة إنتاج جمهور متوازن يجنح الى السلم والاستقرار في منطقة «الشرق الأوسط».
شارون رد على عدم تراجع متسناع عن شروعه بهجوم مضاد، عارضا عليه دخول حزب العمل في حكومة وطنية ائتلافية تجمع الليكود والعمل بقيادته لخوض معركة مشتركة (ومصيرية) ضد الضحية (الشعب الفلسطيني).
رفض متسناع عرض شارون إلا ان حزبه انقسم بين تيار يتزعمه شمعون بيريز يقبل المساومة والمشاركة في حكومة يقودها الليكود وبين تيار متردد يميل الى تبني وجهة نظر زعيم الحزب الذي يتمسك بضرورة التمايز عن شارون وإلا فقد العمل وظيفته ودوره ومبرر وجوده. وهكذا انتقلت المعركة من خارج الحزب الى داخله واستمر العراك الى أن اجتاحت قوات الاحتلال الأميركي بغداد وطرحت اللجنة الرباعية في ضوء تداعيات الحرب على العراق مشروعها عن «خطة الطريق». فكان لا بد من انعكاس الأمر على توازن القوى داخل حزب العمل.
استقالة متسناع من قيادة الحزب المعارض في الدولة العبرية يشير الى احتمال حصول تطورات سلبية في المنطقة. فالحزب الذي يعتبر من المؤسسين بدأ يعاني منذ عشر سنوات أزمة وجود بسبب نمو سياسة التطرف (العنصرية) الطاردة لكل مشروع تسوية يقبل الحد الأدنى من التعايش السلمي مع الفلسطينيين في الداخل والدول العربية المجاورة.
هذا الحزب المؤسس بدأ الآن وتحديدا بعد استقالة متسناع يفقد مبرر وجوده. وتراجع دور الحزب وانكماش تأثيره الأيديولوجي بدأ منذ فترة وتحديدا حين احتلت سياسة الاستيطان في الضفة الغربية والى حد ما قطاع غزة نقطة محورية في برنامج حزب الليكود المنافس للعمل. وبسبب نمو مشاعر التأييد للمستوطنين الجدد في المجتمع الإسرائيلي وتحديدا في بدايات التحول الذي حصل في الاتحاد السوفياتي وقبل انهياره العام بدأ الحزب يتراجع لمصلحة التطرف الاستيطاني. ففي تلك الفترة (نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات) في القرن الماضي هاجر قرابة 800 ألف يهودي (سوفياتي) من المعسكر الاشتراكي وقامت «الدولة» بمختلف أطيافها السياسية بتأمين المساكن واحتضان العائلات في بيوت ومراكز أقامتها لهم في عشرات المناطق وبضمانات مالية أميركية لاستيعاب هذه الموجة الضخمة من المهجرين الروس. هذه الموجة لم تكن طبيعية وكان تأثيرها على «المزاج السياسي» في الدولة الصهيونية سيئا للغاية، إذ أعادت الموجة المجتمع الى نقطة البدء فلم يعد همّ الدولة الأول التفكير في الحلول السلمية مع الفلسطينيين والعرب بل البحث عن المال والوسائل لتوطين هذه الموجة وتثبيت جنسيتها واستيعاب عناصرها في دائرة الهوية الإسرائيلية.
والآن تأتي التطورات الدولية ونمو نزعة أيديولوجية هجومية في واشنطن لتعزز سياسة التطرف الصهيوني وتغذي عناصرها الرافضة للتسوية والمساومة والمشاركة والمحاصصة. ويرجح - في هذا السياق - ان تقوم حكومة ائتلافية يشارك فيها بيريز، بغطاء أميركي تدفع باتجاه تعديل «خريطة الطريق» نحو الأسوأ. فالخريطة التي لقيت الكثير من الملاحظات الشارونية يتوقع لها أن تدخل في حال مراوحة إذا لم تستجب الإدارة الأميركية لشروط «إسرائيل» الدافعة باتجاه تعديلها قبل الموافقة عليها نهائيا... وهذا لا يتم من دون تشكيل حكومة ائتلافية توسع قاعد التمثيل السياسي للدولة في مواجهة ضغوط محتملة من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والاتحاد الروسي.
أما الولايات المتحدة وهي الطرف الرابع في اللجنة، فيرجح ألا تمارس ضغوطها لأكثر من سبب. الأول: اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في العام المقبل. والثاني: هيمنة سياسة البنتاغون على الإدارة الأميركية وميل الأخيرة الى عدم استفزاز «إسرائيل» نظرا إلى حاجة البيت الأبيض لحكومة شارون في المعركة المقبلة التي تخطط لها في إطار سعيها إلى إعادة تشكيل خريطة «الشرق الأوسط» بعد احتلال العراق.
هناك رابط بين طرح «خريطة الطريق» واستقالة متسناع وهو أن «إسرائيل» مالت نهائيا إلى مجتمع الاستيطان وعسكرة الدولة وهذا يعني أن «الخريطة» تحتاج الى طريق جديد... يرجح أن يكون طريق الحرب لا السلم
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 243 - الثلثاء 06 مايو 2003م الموافق 04 ربيع الاول 1424هـ