سقوط النظام العراقي ولو بجرعة سم موضوعة له خفية في كأس من كؤوس الدم الذي أدمن على شربه على الريق يوميا منذ خمسة وثلاثين عاما، بصرف النظر عمن يضع السم، حتى لو كان الذي يضعه هو الأميركي الذي وصف لصدام حسين هذا النظام الغذائي منذ البداية، ذلك كان هدف الشعب العراقي بنسبة 97,97 في المئة من العراقيين على الأقل... اذ لا يعقل عاقل ان يكون المحبون للنظام العراقي أكثر من 2,3 في المئة وهذا كثير.
غير ان هذه النسبة كان بيدها كل شيء حتى ارادة أو التعبير عن ارادة اكثر من 90 في المئة من الشعب العراقي، لأنها أفرغت المواطنين من مركباتهم الذهنية والنفسية، وحطمت آليات الارادة والتعبير عنها، وكان صدام حسين في يوم من الأيام قد نصح حاكما عربيا انقلابيا مستبدا من معارضة رفاقه في ثورة المبعدين عن السلطة، وأنشطتهم المعارضة، فنصحه صدام بأن يسجنهم تحت الأرض ويتبع معهم اسلوبا كالذي يتبعه مع معارضيه حتى ينسوا أسماءهم. وحدثني لاحقا صديق مر بتجربة صحافية مع الحاكم الثوري المعني، وكيف تصرف معه رجال الأمن وديا وبطريقة فيها من الارهاب والجرجرة والجوع والنعاس والتعب والعطش ما جعله مستعدا لنسيان من هو، حتى اذا ما سأله رجل الأمن من أنت وقال: أنا فلان. و رد عليه رجل الأمن مستفسرا ليرفع صوته بالاسم، ظن صاحبنا ان رجل الأمن قرر ان يعطيه اسما آخر. فقال: لا بل أنا فلانة. عفوا سامحني. أنا ضعيف الذاكرة.
هذا الهدف كان بالنسبة إلى الأميركيين ذريعة، لأن العراق كما أي دولة عربية فيها نفط، أو تقع قرب دولة فيها نفط وفلسطين في الحسابات الأميركية أغنى بلد عربي بالنفط.
ولكن الأميركيين لا يجدون انفسهم دائما مضطرين إلى الاحتلال المباشر وخصوصا اذا ما اقتضى جنودا قد تمانع أمهاتهم وتجبر الادارة على اعادة حساباتها، كما حدث في فيتنام، الا اذا كانت القضية ما يقتضيه مشروع الامبراطورية الأميركية كما في العراق وقبله افغانستان. علما بأن التطور التقني قد تكفل بالتقليل من الخسائر البشرية الأميركية الى حد يصبح معه احتجاج الامهات الأميركيات محدودا ومحمولا لأيام أو أسابيع يتحقق فيها النصر السهل بحسب التوقع الأميركي الذي لا يخفى عليه واقع الحال في الجيوش التي حدد لها مهمات وأحجاما وادوارا وعديدا وعدة تمكنه من البقاء وحده آمرا وموجها نحو الاهداف ومتحكما ببنية الجيش يفككه ساعة يشاء... ومن دون اهداف امبراطورية كبرى، ليس هناك من داع للاحتلال المباشر ويوكل الاميركي امر هذا الاحتلال الى قوى وطنية - عراقية في المثال - الى ان تستجد المعطيات التي تستدعي تغييرا في السلوك والتصرف، كالذي من انتصار الثورة الاسلامية في ايران والمخاطر التي اشارت اليها من العراق الى فلسطين أو من فلسطين الى العراق، فكانت الحرب العراقية على ايران وكان اجتياح لبنان بعد كامب ديفيد، احتياطا من ان تتحول ايران الى بديل ولو نسبي لخروج مصر مؤقتا من السياق الطوعي ضد «اسرائيل».
وبعد تحرير جنوب لبنان بقرار أهلي لبناني وانسجام رسمي ومن الممر والحاضن السوري موصولا بالعمق الايراني (فكريا وماديا) كان لابد من احتلال العراق وقد تم. وكانت ايران حريصة على التوازن في موقفها لأن اولوياتها شديدة التعقيد بلحاظ ان النظام العراقي هو موضوعيا على الضد، وبلحاظ مسئوليتها الادبية عن قطاع واسع من الشعب العراقي اقتضى التاريخ وسائر الظروف ان يدخل مع ايران في شراكة مصيرية ما... على العكس من سورية التي تقتضي خصوصياتها وموقعها العربي والتاريخي وتواصلها مع العراق، ان تكون اقل مراعاة للحساسيات من ايران. من هنا جاهرت سورية بالممانعة ومعارضة الحرب على العراق وأدانته من دون ان يكون بامكانها فعلا ان تغير في المسار والمصير، الا في حدود كفاءات النظام العراقي، وعندما انكشف ان هذا النظام عديم الكفاءة لم تستطع سورية ان تفعل شيئا... ولكن الولايات المتحدة تقرر ان تعاقب سورية بطريقة أو بأخرى سلما أو حربا، لأن خطيئة سورية الأكبر هي حدودها مع فلسطين واصرارها على هذه الحدود ودورها التاريخي كعمق فاعل لأي حراك فلسطيني نحو الحرية... واذا ما كانت اسلحة الدمار الشامل هي ذريعة أميركا لإسقاط النظام... الذريعة في المنظور الأميركي. فان هذه الاسلحة أو الخرافة الى القيادات العراقية اللاجئة إلى سورية هي الذريعة لابتزاز سورية... حتى اذا ما تبين ان القادة العراقيين لم يغادروا بغداد الى دمشق وان اسلحة الدمار الشامل لم تخبأ في سورية، لم يتبدل في الامر الاميركي شيء. لأن الاميركيين في حركتهم الاحتلالية الراهنة يشبهون علماء يعملون في حقل معرفي يأتي فيه الدليل في المرتبة الثانية بعد الاعتقاد، اذ يكون دور الدليل هو تثبيت القناعة المسبقة ليس الا، اما ايران فانها لم ترتكب هفوة واحدة في العراق ولا يبدو انها قادمة على ارتكاب اي خطأ يشكل ذريعة حقيقية للأميركيين، ولكنهم يريدون ايران... يريدون العراق اساسا لقمة سائغة فلابد من استبعاد ايران وسورية، بنقل المشكلة بشكل ما الى ايران وسورية... كيف؟ عن سورية تكلمنا، أما ايران فهي تريد ان يقوم انصارها بتشكيل حكومة دينية على الطريقة الايرانية ليصبح العراق جزءا من ايران «الشيعية الفارسية»، إخافة للاكراد والتركمان والسنة عموما في العراق وفي غيره من تركيا الى أعماق الشرق الأوسط والمغرب وغيرها. هذا في حين ان هناك مسلكيات منهجية وتصرفات وتصريحات يومية تؤكد ان العراق ليس موعودا بدولة اسلامية شيعية على الطريقة الايرانية. بل الاتجاه الغالب هو الى دولة وطنية يمثل الاسلام لحمتها وسداها ثقافة واخلاقا وقيما وضوابط شرعية للسلوك وضمانة حضارية جامعة للدولة والدستور وعلاقة المجتمع المتعدد بدولته الواحدة... فالسيد محمد باقر الحكيم اقرب الناس من القيادات الاسلامية الشيعية العراقية الى ايران يصرح يوميا بانه لا يسعى الى دولة اسلامية في العراق وان التجربة الايرانية لا تنسخ أو تستنسخ، وان المشروع الذي يؤمن به للعراق وينسجم فيه مع المرجعية النجفية هو المشروع الوطني الجامع، وعندما يصل الكلام الى المرجعية النجفية للسيد السيستاني والسيد الحكيم - محمد سعيد - والشيخ بشير والشيخ الفياض، المراجع الحقيقيين في النجف فان كل من يقرأ ويسمع ويرى يعرف ان هؤلاء المراجع هم من أكثر المعارضين، لاسباب تتصل بعلم الفقه كما يعرفونه، لولاية الفقيه حجر الزاوية في بناء الدولة الاسلامية في ايران ومسوغها النظري شبه الحصري. حتى ان بعضهم لشدة معارضته لهذا المسلك او المبنى الفقهي تظهر منه سلوكات وتصدر عنه اقوال ومواقف يلاحظ البعض انها متشنجة ضد ايران وتجربتها عموما. وايران الآن، حوزة ودولة محافظين واصلاحيين، لم يصدر عنها اي كلام يؤشر إلى انها تهيئ للعراق مشروع دولة على مثالها، علما بان ايران الآن بعد حوارها المفتوح وتفاهماتها مع الدول العربية جميعا والفائدة التي جنتها من ذلك وبعد سقوط النظام العراقي احد اهم اسباب توتراتها العربية لم يعد في ارادتها ولا مصلحتها ان تعد للعراق مشروعا سياسيا خارج ارادة شركائها وأصدقائها في البلاد العربية. إن على مستوى الدول او على مستوى حركات الاسلام السياسي. وايران بعد ربع قرن عادت اشد عناية بداخلها من الخارج من دون اهمال. ولكن من دون مبالغات أو مغامرات كذلك.
وهذا لبنان مثالا لانجاز كبير كان من الممكن لولا العقل ان تطرح فيه شعارات اسلامية كبيرة وجذرية بناء على انجاز التحرير، بينما لايزال حزب الله بسبب هذه الحساسية مستبعدا من الحكومات اللبنانية ومن الادارات درءا لخطر اتهامه بأنه يريد السلطة، اي ان ايران تريد السلطة في لبنان بمعنى الهيمنة وصوغ مشروع الدولة على غير المعتاد في لبنان، اي بدرجة أو أخرى من الاسلمة.
وفي العراق... حتى حزب الدعوة الذي يحلو لكثيرين ان يضخمو اختلافاته مع ايران وحتى لو كانت هذه الاختلافات عميقة، فانها لا تسوغ له ولا لايران ان يختلفا في هذا المجال بحيث يعمل حزب الدعوة لمشروع دولة اسلامية في العراق لا تريدها ايران أو تؤدي الى الاضرار بها ولا ان يتفقا على هذا المشروع لانهما يقدران خطورته في المدى المنظور على الاقل. وقد سبق لحزب الدعوة ان طور ادوات نظره وعمله السياسي بحيث لم يعد معدودا في الاصوليات الحادة. أما الآخرون ممن يصدر عنهم خطاب سياسي يحمل اولا مشروعات محددة في العراق من الاسلاميين منهم وعلى رغم انهم لا يعدمون تمثيلا فان أحجامهم لا تمكنهم لأكثر من المشاركة في اي أمر يتحقق في مشروع الدولة الوطنية العتيدة.
اذن فالاميركيون يريدون أولا وبالذات البقاء مدة أطول في العراق وتطويع القوى الفاعلة في العراق (النجف خصوصا) من اجل اعادة الاعمار إلى تشغيل شركات ديك تشيني ما يفسر التدمير.. واعادة الاعمار تقتضي وقتا طويلا يلائم الغرض السياسي في افتعال طبقة سياسية عراقية أميركية بعد ازالة كل الالغام والاحتمالات التي قد تكون عقبة في طريق تحكمها وتبعيتها المطلقة إلى الجنرال الأميركي المدجج بالسلاح والنوايا.. وعلى الطريق لابد من تشتيت القوى التي يمكن ان تكون خاضعة لمقاومة محتملة تقصر عمر الوجود الأميركي في العراق.
ملخص القول وختامه في الالحاح الأميركي ومعه أجهزته الاعلامية المواطئة له على الحجب والاظهار... وبناء على رغبات الادارة الأميركية التي تظهر مكثفة ومتوترة في كلام مارتن انديك وتختلط - الرغبات - بالامنيات وتتستر باللغة الخبرية.
ملخص القول ان الولايات المتحدة تريد اخافة العرب من الديمقراطية في العراق لان معناها ان الشيعة (الأكثرية) سيحكمون ما يعني ان هناك دولة اسلامية شيعية على النموذج الايراني.
وهذا ما يستدعي ان تبقى اميركا في العراق مدة أطول لتضمن شكلا ديمقراطيا أميركيا يطمئنهم ويطمئن العراقيين غير الشيعة على مستقبلهم في حين ان أهل القرار من شيعة العراق يجاهرون يوميا بان نيتهم وعملهم ليسا في اتجاه غلبة على الآخرين ولا في اتجاه دولة اسلامية شيعية أو غير شيعية. ويلقى هذا الطرح تصديقا لدى الفاعلين في اوساط سنة العراق الذين يريدون عراقا للجميع واسلاما ليس بالضرورة ان يتجلى في دولة اسلامية بالمعنى الاصولي المتعارف... والسنة في العراق عندما يقولون هذا الكلام يقولونه وهم مطمئنون لأن الاسلام السياسي الحزبي في الاوساط السنية ضعيف جدا، والقرار السني هو للمجتمع الأهلي والعلماء المتصلين به البعيدين عن الاصولية والراديكالية الاسلامية
إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"العدد 242 - الإثنين 05 مايو 2003م الموافق 03 ربيع الاول 1424هـ