العدد 242 - الإثنين 05 مايو 2003م الموافق 03 ربيع الاول 1424هـ

بيير سولاج... الساحر بالأسود والفرشاة

باريس - كلودين كانتي 

تحديث: 12 مايو 2017

«اعتبر اللون الأسود تجاوزا وولعا، إنه لون ضوء، لون عنيف، فرض نفسه وساد، إنه اللون الأصل». هكذا يتكلم الرسام الفرنسي بيير سولاج وبمتعة للمستمع عن اللون الأسود، فقد بيَّنه كحتمية طبيعية، لابد منها، وحضر في مجمل اعماله خلال السنوات الثلاثين الاخيرة. لون اسود حريري ومشع يبزغ منه الضوء. يبين معرض جديد هو الاول في باريس منذ سبعة اعوام، مع 18 لوحة انجزها الرسام بين العامين 1999 و2002، الاحتفاء بـ «الأسود الضوء»، السائد في كل مكان، والذي منحه سولاج تعبيرا حديثا هو «ما بعد الأسود» الذي يعرفه بأنه «وراء الأسود، كضوء معكوس ينقله الأسود نفسه». ويشير إلى ان «الاداة ليست اللون الأسود إنما الضوء». يكمن التجديد في اعماله الاخيرة في ظهور اللون الابيض، بخطوط افقية ممزقة تعطي ايقاعا للمساحة السوداء في لوحاته العمودية الكبيرة، و«القائمة على البساطة المتناهية في التناقض الاولي: اسود بحت - ابيض بحت».

من الاسود إلى الابيض ومن الابيض إلى الأسود، يحب سولاج في الـ 83 من العمر، ان يروي عندما كان طفلا في الخامسة من العمر يعمل بفرشاة لتمضية الوقت في غرفة إذ كان مريضا، بقعا سوداء على ورقة بيضاء، ويضحك عائلته بتأكيده أنه «منظر الثلج»، هذا بكل بساطة لأنه كان يود منذ تلك الفترة «اظهار الابيض اكثر بياضا في تعاكسه مع الاسود».

ولد سولاج في مدينة روديز جنوب غرب فرنسا في 24 من ديسمبر/ كانون الاول 1919 وعشق منذ طفولته فنون ما قبل التاريخ مثل النصب والتماثيل المنحوتة والمنقوشة منذ أكثر من 5 آلاف عام والمحتفظ بها في متحف روديز. يقول: «دخل اسمي للمرة الاولى في متحف بمناسبة العثور على أشياء وجدتها عند نصب (دولمن) اثناد التنقيب الاثري». وكانت بعد ذلك، الرسوم الجدارية في مغارة لاسكو في منطقة دوردوني. يقول في هذا الصدد ان «رجال المغاور كانوا يرسمون بالأسود». أما صدمته الكبيرة فقد عرفها مع اكتشاف الفن الروماني وبشكل خاص رائعته في دير كونك بالقرب من روديز. تلك الكنيسة المقصودة للزيارة والمشيدة في القرن الثالث عشر على طريق سان جاك دو كومبوستل. «ادركت هناك وبشكل اشراقي انني سأكون رساما». وهنا كمن حماسة حين كلفته وزارة الثقافة العام 1987 بانجاز الزجاجيات الجديدة لكنيسة سانت فوا دو كونك الرائعة، مغامرة لم يتصورها عندما بدأ الرسم في منطقته النائية جاهلا تماما تيارات الفن المعاصرة.

يقول ان «ولادته الحقيقية كانت اكتشاف الرسم الحديث» بفضل اخراج اعمال ماتيس وفان جوخ وزيارة لمعرض بيكاسو العام 1938 في باريس إذ قدم لعدة اشهر. تم قبوله العام 1939 في معهد الفنون الجميلة، «لكن عندما رأيت ما يعملون، اخذت القطار في الحال عائدا إلى روديز». طلب إلى العسكر العام 1940 وعاد إلى الحياة المدنية في السنة التالية واصبح مزارعا العام 1942 مع اوراق ثبوتية مزورة لينجو من العمل الالزامي في المانيا.

العام 1946 عاد إلى باريس وكرس حياته للرسم. سرعان ما لوحظت اعماله التي طبعها لون مظلم مختلفة تماما عن رسم ما بعد الحرب بألوانه الزاهية. كان سولاج يستعمل في هذه الفترة قشر الجوز «مادة رخيصة الثمن مع ميزة إعطاء شفافية وغمق للوحة تمنحها لونا عميقا وحارا كما احب». مع أن هذا اللون لم يكن الوحيد في لوحاته، فهناك الأزرق العميق والبني والأصفر مع خطوط سوداء مضيئة «اعنف الالوان تمنح الحركة للألوان الاخرى».

مع سيطرة الأسود برزت اللوحات الكبيرة وزاد حجمها عاما عن عام حتى بلغت اللوحة ذات المضلعات الكثيرة بحجم (6,5 * 3 امتار علو) مؤلفة من مسطحات معلقة في السقف بحبل قنب، كجدار اسود يتلاعب فيه الضوء بين الخطوط العريضة والدقيقة المحفورة بالفرشاة مع المسطحات. يضيف: «احب ان تكون اللوحات اكبر مني» (فطوله 1,90م). هذه اللوحات هي التي اتاحت لسولاج أن يكون من الرسامين النادرين الذين تعرض اعمالهم في اللوفر وخلال حياتهم، كان ذلك العام 1990 تحت عنوان «المضلعات في الفن». وبعد أحد عشر عاما كان من بين الاوائل الذين يكرمون في متحف ارميتاج في سان بطرسبورغ في روسيا وأكثر من ذلك فقد اضاف هذا المتحف لوحة له إلى مجموعاته الدائمة. بين مايو/ ايار واغسطس/ آب المقبل تنظم مكتبة فرنسا الوطنية وللمرة الاولى معرضا لمجمل اعماله المنشورة: 43 مائية، 41 ليتوغرافيا، 26 سريغراف، 3 برونز. إنه معرض يعد بالروعة، ويضيف: «مع النقش، تركت الحامض يخترع انطلاقا من مقترحات وضعتها».

يعرف الكثير في العالم سولاج ويعجبون بأعماله باعتباره واحدا من كبار الرسامين الفرنسيين على قيد الحياة. (يقول البعض انه اعظم رسام). يحمل من بين جوائز التكريم «بريميوم الرسم من طوكيو». يرتدي سولاج ثيابا سوداء وتبرق نظرته، يواصل بحثه الدائم عن الضوء مسلحا بمجموعة ادوات صنعها بنفسه، بما فيها من جلد نعال الاحذية لمسح اللون. لا تحمل لوحاته عنوانا ابدا إنما سنة الرسم والابعاد.

لا فائدة للزائر، اذا حالفه الحظ يوما ودخل محترفه، من إلقاء نظرة على لوحة وضعت مقلوبة بجانب الجدار، لأن الرسام وضعها «قبل ان يعرف اذا اراد اخراجها ام لا». واذا حكم على عدم ظهورها، يحرقها لكنه يحافظ على الاطار. في حديقة المنزل الذي رسمه وزوجته كوليت منذ 60 عاما في مدينة «ست» جنوب فرنسا، مقابل البحر، وبالقرب من مقبرة البحارة حيث دفن الشاعر بول فاليري. أما لوحته المفضلة فهي: «تلك التي سأرسمها غدا»، والتي ستكون ما نفعله بها لأن «حقيقة العمل ليست في مادته، إنما في النظرة التي نلقيها عليه».

فيما يخص 104 زجاجيات (95 نافذة و9 طاقات) فتظل تجربة استثنائية في اعمال سولاج. فقد بحث فترة طويلة عن الزجاج المناسب لادخال الضوء إلى الكنيسة ولم يعثر عليه، فاخترعه بعد أكثر من 400 اختبار وصنّعه في فرن خاص في المانيا. إنه عبارة عن زجاج ابيض واضح وغير شفاف يحترم تنوعات الضوء. روى ذات يوم من العام 1979: «ادركت ان الأسود ليس المهم بالنسبة إلي إنما الذي يعكسه الأسود». الأسود والابيض «لونا ضوء» لهذا الساحر





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً