العدد 242 - الإثنين 05 مايو 2003م الموافق 03 ربيع الاول 1424هـ

الجندر والثقافة

بعد عشرات السنين، وقبل أن يطوي القرن العشرون صفحاته، كان لابد لمجتمعاتنا أن تراجع وتقيّم الأدوات التي استهلكتها في تناول قضايا المرأة، وأن تسأل عن جدوى استمرارية تداولها لهذه القضايا، ومن زاوية ثنائية الرجل والمرأة، كان لابد من التوقف عند المفاهيم الجديدة التي وردت إلى ثقافتنا مثل (مفهوم الجندر) واحتساب ما إذا كان بالإمكان توظيفه أداة مرنة تساعد على الخروج بنظرة مغايرة للواقع... تدفع بالمجتمع إلى الأمام.

لكنه وعلى رغم أن المفهوم لم يمر من بوابات المعرفة عند البعض، فإنه يشكل أحد المفاتيح التي قد تستعمل لفتح أقفال الكثير من الأسئلة، فضلا عن خلق أساليب وطرق وآليات لتفسير علاقة الرجل والمرأة والمجتمع بعيدا عما استهلك في الماضي من أفكار وتنظيرات انتهى ـ حسبما نعتقد ـ أوانها. لذلك فتغير الأفكار وبعض المعتقدات وطريقة التفكير أصبح مطلوبا، لا بل غدا حتميا وبكثافة لا تنتظر التأجيل، فبقدرة قادر تمكّن (مفهوم الجندر)، الذي لا ترجمة لمضمونه الحقيقي في اللغة العربية، أو حتى الفرنسية، من اختراق الثقافة العربية إن جاز تعبير البعض، وأصبح جزءا لا يتجزأ من مضمون مشروعات وبرامج التنمية الإنسانية، فمنذ تداوله في المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في مصر العام 1994، وتبنيه من قبل مؤتمر بكين العام 1995، وذلك بتسجيل التزام الحضور بالنهوض بالمرأة ومساواتها من منظور النوع الاجتماعي (الجندر)، وأن تأخذ حقوقها باعتبارها جزءا لا يتجزأ من حقوق الإنسان ضمن الاستراتيجيات والسياسات والبرامج، وبحسب تحديد الأولويات الإنمائية التي تقع مسئوليتها على عاتق الحكومات وبالتعاون مع المنظمات الأهلية والإقليمية، نقول منذ ذلك الوقت و حتى الآن و نحن نسمع عن مصطلح (الجندر) وكأن لا شيء يعنينا؟ ماذا يعني هذا؟ ببساطة شديدة يعني أن مجتمعاتنا لم تستطع بعد فتح المعابر ولو جزئيا للتعامل مع هذا المفهوم وتوظيفه باعتباره أداة بما يتلاءم وواقع مجتمعاتنا، وترجع يسرى مصطفى من المركز المصري الحقوقي الأسباب إلى: ضعف بنية منظمات المرأة ذات الطبيعة الدفاعية التي تركز أنشطتها على التنشئة ورفع الوعي ولا تتطرق إلى الجوانب الفكرية، وغياب تفاعل المثقفين مع بعض القضايا والمفاهيم الجديدة ومن بينها مفهوم النوع، في الوقت الذي يرفض الآخرون هذه المفاهيم باعتبارها منتجا غربيا أو إحدى إفرازات العولمة المرفوضة، وبما يترافق مع ضعف للإنتاج العلمي الأكاديمي، وضعف حركة الترجمة، وهيمنة الثقافة الأبوية.

كل تلك الأسباب أدت إلى عدم اندماج مفهوم النوع في البنية الفكرية العربية. وسواء توافقنا كلية مع هذه الملاحظات أو بعض منها، صار من اللازم تأكيد حقيقة ساطعة، هي القصور الواضح لدينا في إعادة تقييم الواقع، وأهمية قراءة قضايا المرأة والرجل بشكل غير تقليدي، وبعيدا عن مصطلحات فترة السبعينات وشعارات الأممية (على رغم صحة بعضها في مرحلتها)، المطلوب رؤية من منظور النوع الاجتماعي... فهل هذا ممكن؟ لنرى!!

لقد تمكنت قلة من الأفكار ذات الحدود المغلقة التي أحيطت بمفهوم (الجندر) من التغلغل وتشويهه وخصوصا بعد أن ترجمه البعض إلى مصطلح (الجنوسة) في العربية، فكان أن أقترن بمفهوم الجنس بمحتواه الفسيولوجي الخاص بجنس الذكور والإناث، وبما تتحدد عليه من أدوار خاصة بالذكر أو الأنثى وحسبما يتوقعه المجتمع منهما، ومن منطلق وجودهما بوصفهما أفرادا يتمتعون بمواصفات جنسية أولية أو ثانوية ثابتة وغير قابلة للتغيير، بمعنى أن يكون الدور الإنجابي مثلا دورا يتعلق بالمرأة فقط وهو ثابت ويتحدد على خلفية الوظيفة الفسيولوجية للمرأة. وهذا الفهم طبعا يشكل سلسلة من الثقافة غير المتوازنة السائدة في المجتمع تجاه دور المرأة والرجل. استنتاجا من هذا الفهم بعد ترجمته لمصطلح (الجنوسة)، فالجندر لصيق بالجنس ويفسر بناء عليه دور المرأة أو الرجل من المناظير التي أسلفناها. لكن الحقيقة عند الآخرين لها وجه آخر، وهي أن (الجندر) يعني النوع الاجتماعي، وهو تعبير عن المواصفات الحضارية، أو الاجتماعية لكل جنس من الجنسين في زمن ما ومكان ما وإن هذه المواصفات ليست نتاجا طبيعيا للصفات البيولوجية لأي منهما وإنما هي نتاج الأدوار الاجتماعية والحضارية التي تم صوغها وهيكلتها من خلال عوامل تاريخية وحضارية واقتصادية وايديولوجية وإثنية، وعليه فالجندر بشكل مبسط يعني أدوارا محددة اجتماعيا للرجل والمرأة يمكن أن تختلف حتى داخل المجتمع الواحد. إذن النوع ليس الجنس وليس المرأة إنما المرأة مقابل الرجل معا وتحديدا العلاقة بينهما بناء على الأدوار التي يتوقعها المجتمع منهما.

وفي السياق ذاته توضح الدراسات أن هناك تصنيفا للنشاط البشري يقسم أدوار النوع الاجتماعي بشكل مختلف من مجتمع إلى آخر، ومن مكان إلى آخر ومن زمن إلى آخر، وحتى من جيل إلى آخر وبتأثير من عوامل كثيرة منها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية، وذلك بحسب ثقافة المجتمع وقيمه. ويتشكل العمل بحسب هذا التقسيم إلى عمل إنتاجي وآخر إنجابي يتعدى في مفهومه وظيفة إنجاب الأطفال ليشمل جميع الأنشطة الخاصة بالمحافظة على الموارد البشرية، وتلك التي تعنى باحتياجات الأفراد الجسمانية والوجدانية، وبالتالي فحسب مفهوم النوع الاجتماعي فإن الدور هنا يشمل الرجل والمرأة، وهنا لابد من التفكير بعمق، لأننا إن أخذنا بهذا الاعتقاد، فهذا يلزمنا التخلي عن حصر النشاط الإنجابي فقط بوصفه واجبا حتميا من واجبات المرأة تجاه المجتمع، أيضا ربما هذه القناعة ستؤدي بنا إلى الأخذ بفكرة تبادل الأدوار بين الرجل والمرأة ضمن علاقة (التطبيع الاجتماعي) وذلك بما يتلاءم وثقافة وقيم المجتمع في زمان ومكان معين. ألم نقل... أن هناك حاجة إلى البدء بقراءة مغايرة للمفاهيم التي يشتكي البعض من اختراقها للثقافة العربية؟! هناك صلة ورابطة قوية بين مفهوم الجندر وعملية التنمية، تجذر في إطارها ملاحظة تمحور نشاط حركات تحرر المرأة عن شعار (المساواة بين الرجل والمرأة) ولعقود من الزمن، وتركيز فكرة صانعي قرارات التنمية على دمج المرأة باعتبارها عامل إنتاج اقتصاديا وعدم هدرها، وما رافقه من تطور للنظريات التنموية، واتساع مفهومها ليشمل دور المرأة في الاقتصاد إلى الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية والإنسانية فيما بعد، فكان أن دخل مفهوم الشراكة والتمكين جزءا وأساسا لعملية التنمية، وهما ـ كما توصلنا ـ يشكلان العمود الفقري لموقف النوع الاجتماعي (الجندر) من دور المرأة والرجل باعتبارهما شريكين في عملية التنمية، ولابد من تمكينهما من القيام بأدوارهما تجاه المجتمع. تشير نهاد أبوالقمصان إلى أن هناك الكثير من المؤشرات على مستوى المشاركة والتمكين في المجتمعات، منها نوعية وكمية، وتؤكد أهمية هذين المؤشرين وخصوصا النوعي الذي من خلاله تقاس المستويات القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات، بمعنى قدرة هذه المجتمعات على تجسيد حق صنع القرار واختيار البدائل، إضافة إلى الكم والكيف النوعي للتنظيمات الهادفة إلى التغيير الاجتماعي والاقتصادي. إذن أصبح من الضروري أن تراجع فكرة إعادة توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة من أجل اكتشاف قدراتهما وتمكينهما من توظيف المهارات للقيام بالأدوار التي تعود بالنفع على المجتمع. بهذا أيضا نتوصل إلى أن للمرأة أدوارا متعددة وكذلك للرجل، هذه الأدوار التي لا تنفي احتياجاتهما الجندرية التي شرحتها مجمل الدراسات والبحوث من حيث كونها احتياجات عملية تسهل قيام الأفراد بأدوارهم التقليدية التي اعتاد عليها المجتمع ويتقبلها، ومن المفترض أن تلبيها الحكومات والمنظمات الأهلية بما تشمله من رعاية وتوفير خدمات، أما الاحتياجات الأخرى فهي احيتاجات استراتيجية تعالج انعدام التوازن في العلاقة بين الأدوار الجندرية للمرأة والرجل التي تتسم بالتمييز ضد المرأة، هذه الاحتياجات طويلة المدى، وتعالج بتوفير فرص اختيار حر للنوع الاجتماعي ومن أمثلتها ما تم توفيره للمرأة في مجال الصحة الإنجابية والفرص المتساوية للنساء والرجال في التدريب والتأهيل للحصول على الوظائف وبالتالي للترقي والوصول إلى مراكز صنع القرار وسن القوانين والتشريعات بما يضمن المساواة والعدالة للمرأة ويشجعها على المساهمة في الحياة السياسية، ويوفر لها الأمان ويحميها من العنف ويزيل أشكال التمييز كافة. هناك الكثير من الإشكالات التي أثارت جدلا واسعا، ليست في مجتمعاتنا فحسب، إنما في المجتمعات التي تقيّم نفسها بالتحضر، عن علاقة (مفهوم الجندر) بقضايا وأفكار مثل فكرة التنميط النظري الغربي للمرأة المسلمة، أو قضية الطبقة والنوع والتداخل بين القهر النوعي والطبقي والعرقي للنساء، وشعارات الحركة النسائية العالمية وعلاقتها بالدولة وهيمنة الطابع المهني على نشاطها، كما شملت هذه الإشكالات كيفية معالجة منظمة العفو الدولية لواقع الأسرة وللانتهاكات التي تتعرض لها المرأة إذ تفصل المنظمة بين ما هو عام فتكون الدولة عندها مسئولة عن الانتهاكات الإنسانية فقط، أما ما يحدث في المجال الأسري ووفق منظورها فإن الدولة غير مسئولة عنه، والبعض يرى أنه لا انفصال بين العام والخاص وأن الدولة ستبقى مسئولة عن كل الانتهاكات حتى التي تتعرض لها المرأة داخل الأسرة. ومن أبرز القضايا إثارة وخطورة المتعلقة بمؤسسة الأسرة وقضية الأمومة التي رأى بعضهم (أنها تدفع المرأة إلى أسفل سلم التدرج المهني وأنها معادية للمجتمع...)، لكن المختلفين مع هذا الرأي يؤكدون ضرورة توفير الخدمات التي تلبي احتياجات النوع الاجتماعي لكي يفسح المجال أكثر لأداء الأدوار التي يتوقعها المجتمع من المرأة والرجل، وأن الأسرة أثبتت مع الوقت أنها تلبي قبل هذا وذاك احتياجات نفسية وعاطفية حقيقية، كما أنه بمقدور أفرادها تشكيل مقاومة حقيقية بتماسكهم ضد المظاهر السلبية لدولة الرفاهية، والتأثيرات السلبية للعولمة. استنادا إلى ما سبق، ألا يجدر بنا المغامرة للغوص في بحور (مفهوم الجندر)... الذي يطلق عليه البعض (الجنوسة)... لمعرفة المزيد والمزيد الذي نجهلة؟!





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً