تناولنا في حديثنا السابق موضوع التعليم بين نموذجين، وسنحاول هنا التركيز على مناقشة وتحليل القضايا الرئيسية المرتبطة بتجويد التعليم في مدارسنا وتوضيح المعالم الجديدة للمدرسة التي نطمح إليها في ظل رؤية جديدة للتعلم والتعليم. فنحن أمام نموذجين للتعلم، النموذج العلمي للمدرسة التقليدية يركز على الجانب الآلي لعملية التعلم في ظل منهج متسلط يصادر حق المتعلم في التفكير، ويعطل لديه الابداع، ويعمي عليه الحقائق، ويعوده على التفكير النمطي والقبول بالحلول الأحادية، ويربط نجاحه باجتيازه الامتحانات الرسمية من دون اعتبار لمواهبه ومشاعره الانسانية. وعلى النقيض من ذلك يسعى النموذج الانساني إلى الارتقاء بالفرد لتحقيق ذاته، واشباع حاجاته في المعرفة، وتحقيق ميوله، واستثمار مواهبه في عملية الاعداد للذات فيتخرج مؤهلا بمهارات الحياة التي تساعده على شق طريقه بنفسه واختيار المسار الوظيفي الذي يطمح إليه.
ويتضح مما سبق ان النموذج العلمي للمدرسة التقليدية هو تفصيل في واقع الحال لما يجري في المدارس، وان النموذج الانساني الذي نطمح اليه هو حال استثنائية أو مثالية لا يمكن تطبيقها في واقعنا الحالي. وبعبارة أكثر وضوحا ان الرأي العام والمؤسسة المدرسية لا يتقبلان النموذج الانساني الثقافي - على الأقل في وقتنا الحالي - بديلا للنموذج المدرسي التقليدي.
قد يثار في هذا المجال سؤال عن أهمية التغيير ما دام الأمر يسير بالشكل المطلوب والمقبول من قبل كل من: المجتمع المدرسي والمجتمع المحلي؟ وما المبرر للمجازفة بتطبيق افكار أو نظريات جديدة وتعريض منجزات الحاضر للضياع مقابل مكتسبات لم تتحدد إلا في عالم التصور والخيال؟
والاشكال المثار هنا يتضمن قضيتين مهمتين يجب أن نلقي عليهما الضوء الكافي حتى نتبين حقيقة الأمر وهما: القبول بالأمر الواقع ومقاومة التغيير بمبررات شخصية أو اجتماعية.
وأولى المعضلات التي تواجهنا في التغيير هي مقولة القبول بالأمر الواقع، وهي نظرية - إن صح التعبير - لعبت دورا خطيرا في كتابة التاريخ، وسدت الأبواب أمام البشر للتحرر من كل القيود السياسية والاجتماعية، ووقفت حجر عثرة أمام التقدم العلمي لقرون طويلة والمؤسسة المدرسية بوصفها كيانا اجتماعيا ليست في هذا المجال، فالثقافة التقليدية للمؤسسة المدرسية تستمد سر مقوماتها من هذه النظرية، بل وتستخدمها أداة ضغط اجتماعي لرسم الأدوار وتحديد المساحة الفكرية التي يتحرك في اطارها العاملون في هذه المؤسسة، ويبرز دور هذه النظرية بصورة أوضح كلما سبرنا الخلفية الثقافية للعاملين بالمؤسسة المدرسية والتي تتمثل في الخصوصيات الآتية:
- مركزية السلطة، فالمعلم يعي أنه محكوم بنظام اجتماعي يرسم له تصرفاته وممارساته وأدواره داخل المدرسة.
- الاستقلالية النسبية، فعلى رغم مركزية الادارة فإن المعلم يمارس السلطة العليا في ادارة صفه، ويرى ان من حقه أن يقوم بدوره كما يشاء.
- العزلة الذاتية، فالمعلم عندما يغلق عليه باب صفه لا يريد الآخرين التدخل في عمله ويعتبر ذلك شأنا خاصا به.
- مبدأ البساطة، فالمعلم لا يريد اضاعة وقته في تجريب الامور الحديثة فهو عارف بما يعمل وما لا يعمل.
- مبدأ الثبات، فالمعلم يحب العمل بطريقته الخاصة، ويرفض التغيير لأنه غير مضمون.
- مبدأ الواقعية فالمعلم واقعي يتعامل بشكل عملي مع الأمور ويرفض النظريات والمثاليات التربوية.
- مبدأ الواجب فالمعلم عليه واجب يؤديه وهو تدريس طلبته وليس من واجبه المشاركة في المهرجانات والمؤتمرات والبحوث الدراسية التربوية.
- مبدأ التبرير فالمعلم عليه أن يعمل في صفه فقط وليس عليه أن يحمّل نفسه ما لا طاقة له به من أعباء خارجية وقتل نفسه من دون مقابل.
- مبدأ التقدير، فالمعلم يرى أن هذه المهنة ليس فيها تقدير ولا احترام من قبل الجميع وانه سيتعرض للمساءلة والمحاسبة لأقل هفوة.
وفي ظل ثقافة العمل التقليدية بالمؤسسة المدرسية يصعب على معظم العاملين تقبل فكرة التغيير، وبالتالي لا يجدون مفرا الا قبول الامر الواقع خصوصا وأنه يوفر صمام أمان للتحكم في مجريات الامور بالمدرسة من ناحية ولا يخل بتوازنات القوى الاجتماعية وادوارها في العملية التعليمية كافراد المجتمع المدرسي والادارات التعليمية والمجتمع المحلي من ناحية اخرى، واما بالنسبة إلى المبررات التي تستدعي مقاومة التغيير فبعضها شخصي يرتبط بالخوف من التجريب، وعدم النضوج الفكري، والمحافظة على المصالح الشخصية، وصدمة المستقبل، ومنها ما يرتبط بأسباب إدارية واجتماعية واقتصادية نوجزها فيما يأتي:
- القوى الاجتماعية التي تفضل الحفاظ على الأمور كما هي مازالت قوية.
- لا توجد على التحديد أهداف دقيقة للمؤسسات التربوية.
- فشل معظم المدرسين في تطوير العادات الأكاديمية والتي تمكنهم من التعامل مع التفجر المعرفي.
- غياب التقويم والمراجعة القائمة على التغذية الراجعة في المؤسسات التربوية.
- فشل البرامج التعليمية في تطوير المهارات والمعارف اللازمة للتجديدات التربوية.
- الكلفة الاقتصادية الباهظة التي تلازم عمليات التجديد والتعقيدات الإدارية لمصاحبة لها.
التغيير أمر حتمي
بعد أن تناولنا بالنقاش والتحليل المبررات الشخصية والاجتماعية لمقاومة عملية التغيير، آن الأوان لنقلب الوجه الآخر للعملة ونستوضح مبررات التغيير وضرورة إحداثه في عمليات التعليم بالمؤسسة المدرسية. فالتغيير أصبح أمرا حتميا خصوصا ونحن نعيش عصر التحولات السريعة والمتلاحقة في المجالات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإذا أريد للمدرسة البقاء والاستمرار في أداء رسالتها فلا بد للعاملين فيها من التعامل مع الحقائق الجديدة بشجاعة واقتدار، وتحمل مسئولية تربية الجيل الجديد بروح جديدة وأفكار ابتكارية تتواكب مع المتطلبات التربوية الحديثة.
فعلى المستوى السياسي أخذت تبرز القوة العظمى الوحيدة المتمثلة في الولايات المتحدة الأميركية وما يتضمن ذلك من تبعات للترويج للمشروع الثقافي الأميركي وتحديات مصيرية بالنسبة إلينا كأمة لها تاريخها المشرق الذي يرتبط برسالة الإسلام وقيمه الروحية والأخلاقية في الحياة، ويتمثل في الأخطار التي تتهدد المنطقة بالاحتواء وتدمير روح اليقظة والمقاومة والرفض في قطاعات الأمة عبر التسويق للنموذج الأميركية في الديمقراطية و«أمركة» العقل العربي خدمة لمصالح «إسرائيل» ومخططاتها الشيطانية. وهذا طبعا يستدعي منا وقفة للتأمل في مدى قدرتنا على توظيف المناهج المدرسية في بناء الشخصية المنتمية إلى دين وثقافة هذه الأمة، والقادرة على الدفاع عن مصالحها وثرواتها، والمحاربة للمتربصين والعابثين بمقدراتها. ونحن أيضا نثير أسئلتنا بشأن نوعية الثقافة التي تتضمنها مناهجنا الدراسية، فهل هي بالمستوى الذي يساعد الأمة ويؤهلها لمواجهة الأخطار المحدقة بها؟ وهل يمكن القول إنه في ظل ثقافة النجاح السريع، ونمطية التفكير، وتلقين المعارف، والتعصب الطائفي، والقولبة الفكرية نستطيع أن نعد جيلا صالحا يستطيع تحمل كل هذه المسئوليات التي تنتظره؟
أما على المستوى الاقتصادي فقد برزت العولمة الغربية كأخطبوط يلف الكرة الأرضية بأذرعه ليخنق حريات الشعوب، ويقحمها في اتفاقات ومعاهدات، ويسيرها في أحلاف وتكتلات يكون الرابح الوحيد فيها هو الدول الغنية والخاسر دوما هو الدول الفقيرة والمستضعفة. وتتضح الأهمية الاقتصادية للتعليم عندما تسهم المناهج المدرسية في تحرير عقول أبنائنا من التبعية الاقتصادية لهذه الدول المتكبرة، وتربيتهم على الاستقبال الذاتي والاعتزاز بالانتاج المحلي والإسلامي، وتحقيق ما نطمح إليه من اكتفاء ذاتي واستغناء عن الخبرات الأجنبية وذلك بربط التعليم بالحاجات الفعلية لهذا الجيل ومساعدته على امتلاك ما يحتاجه من مهارات معرفية ونفسية واجتماعية لمستقبل حياته.
وفي المجال العلمي أصبحت الكثير من المقولات العلمية في الذكاء ونظريات التعلم تفقد صدقيتها بعد أن أميط اللثام عن الكثير من الأسرار بشأن عمل الدماغ البشري وطرائق التعلم عند الناس، وباتت أساليب وتقنيات الأمس القريب في التعليم والتعلم غير قادرة على تلبية الحاجات المتجددة عند الناس وغير كافية في حد ذاتها لتحقيق العائد الاقتصادي المطلوب في العملية التربوية. وعلى رغم ما يجري في العالم من تغيرات فمازال النظام التعليمي عندنا متمسكا بأفكار تقليدية كسلم بلوم المعرفي، والفكرة العامة للذكاء البشري، ومناهج المواد الدراسية من دون إتاحة الفرصة لاستخدام خيارات أخرى في التعليم والتعلم. وإذا كان الأخذ بهذا الفكر التقليدي له أسبابه ومبرراته السياسية والإدارية، فلماذا يدفع أبناؤنا ثمن هذا الاختيار في تضخيم الكتب والمقررات التي تثقل ذاكرتهم بمعلومات لا جدوى منها، وتطفأ كل بوادر الابداع لديهم وتحيلهم إلى أشخاص مبرمجين يرددون بلا وعي ما يقوله لهم المعلم من دون نقد أو مناقشة.
وللتغلب على هذ العجز لابد أن ننظر إلى الأمور من منظور آخر يساعدنا على الخروج من دائرة التعليم المقنن إلى فضاء الإنسانية الرحب فهناك الكثير من البدائل للمنهج التقليدي والتي تساعدنا على تجويد التعليم في مدارسنا نذكر منها ما يأتي:
- تنمية مهارات التفكير عبر المناهج الدراسية عن طريق الدمج.
- بناء المناهج المحورية التي يشترك المدرس والطلاب في إعدادها لدراسة المواد المختلفة (من دون الحاجة إلى كتب دراسية محددة).
- بناء المناهج في شكل وحدات دراسية تتيح للطلبة العمل التعاوني، وتبادل الأفكار والمعلومات، وتطبيق ما تعلموه في مواقف عملية.
- بناء المناهج المتكاملة التي تساعد الطلبة على البحث العلمي وتعلمهم المهارات الأكاديمية والحياتية.
- توظيف نظرية الذكاء المتعدد لجاردنر في بناء مناهج جديدة تساعد الطلبة على الكشف عن مواهبهم وقدراتهم الخاصة.
- استخدام تقنية المعلومات في بناء برامج تعليمية عن طريق الانترنت (التعلم عن بعد).
أليس من الغريب أن تختفي من المدارس مشروعات الطلبة، والعمل الفريقي، والتعلم التعاوني، وبرامج التعلم الذاتي، والزيارات الميدانية التعليمية، والعمل التطوعي في المجتمع كخيارات للتعلم والدراسة، ويقتصر فقط على تقديم المعلومات المعلبة في الكتب والدروس الخصوصية التي تعد الطلبة وتساعدهم على النجاح السهل في الوقت الحاضر وتحرمهم في الوقت نفسه من امتلاك مهارات الحياة التي يحتاجونها لبناء المستقبل. في ضوء كل هذه الحقائق بات التغيير أمرا حتميا، ومن الأفضل أن نبدأ في التخطيط لإحداثه قبل أن تفرض علينا التحولات المقبلة من الخارج ظروفا لا نستطيع التحكم فيها فنتخبط ولا نحسن التصرف حينها
العدد 241 - الأحد 04 مايو 2003م الموافق 02 ربيع الاول 1424هـ