كيف يمكن قراءة الانذارات الاميركية التي تطلق شمالا ويمينا ضد دول الجوار بعد احتلال القوات الاجنبية العراق؟ هناك اكثر من وجهة نظر. الأولى ترى فيها مجرد تهويل القصد منه تخويف دول المنطقة من اجل تمرير الملفات التي تريد واشنطن منها اعادة الاستقرار بعد الفوضى التي دبت في النظام الامني الاقليمي. وجهة النظر هذه تضع الملفات الساخنة على نار باردة وتذهب الى القول إن إادارة البيت الأبيض هي الآن في حال استرخاء بعد سطوتها على الغنيمة وتحتاج الى وقت طويل (سنة او سنتين) حتى تلتهم الفريسة.
وجهة النظر الثانية تضع الملفات على نار حامية وترى ان الادارة الاميركية في حال نشوة وتعيش لحظات انتصار كبير يمكن تطويره ونشر آثاره على محيط العراق الجغرافي - السياسي. وينظر هذا الفريق الى الوضع اللا مستقر في «الشرق الأوسط» فرصة مناسبة لواشنطن لطرح مشروعها العام الذي يطال اكثر من نقطة ساخنة منها العراق وفلسطين ولبنان. ويأخذ هذا الفريق الانذارات الاميركية على محمل الجد ويرى فيها املاءات سياسية تتجاوز حدود التخويف والتهويل بل انها تعني ما تقول وتقصد فعلا كل كلمة تطرحها.
وجهة النظر الثالثة تقع بين الرأيين فهي تجد في الانذارات والاملاءات عناصر متناثرة من الافكار المشوشة لكنها في النهاية تلتقي في استراتيجية محددة وهي: ان الولايات المتحدة تريد استثمار الوضع الجديد في العراق باتجاه إعادة توظيفه في قضايا قديمة وساخنة تتصل بكل ما له علاقة بأزمة «الشرق الأوسط». وبرأي هذا الفريق ان الكلام الاميركي ليس جديدا إذ قيل مرارا وكرره اكثر من مصدر رسمي قبل الحرب على العراق. الجديد في الكلام هو ان اميركا نجحت في احتلال بلاد الرافدين وتتجه الآن إلى موضعة قواتها وتنظيم انتشارها باسلوب هجومي ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض مجددا على غنيمة جديدة.
وجهة النظر الثالثة تضع الانذارات والاملاءات الاميركية بين خطين فاصلين فهي لا ترى فيها تهديدا جديا مباشرا ولا ترى فيها مجرد كلام للتخويف والتهويل يطلق في الهواء من دون معنى او قدرة على تنفيذه حين تأتي الفرصة.
الرأي الثالث يتجه الى القول ان تخفيف القوات الاميركية في العراق والمنطقة ومياه الخليج مجرد خدعة وما يحصل هو مجرد إعادة انتشار للجيوش بعد ان حققت الحرب على العراق اهدافها المعلنة وبقي عليها الآن الاستمرار في استراتيجية الضغط السلمي لتحقيق اهدافها غير المعلنة. واذا وصلت تلك الاستراتيجية الى حائط مسدود تكون واشنطن مستعدة للهجوم الذي ليس بالضرورة ان يشابه الاسلوب الاميركي في العراق ولكنه لن يكون في خطوطه العامة بعيدا عن نتائجه.
ويمكن اضافة الكثير من الآراء المشوشة على وجهات النظر الثلاث إلا ان اهم تلك الآراء الرأي الذي يركز على خواء الوضع الدولي وعدم وجود تكتلات قادرة على مواجهة او الصمود امام الهجوم الاميركي ليس في منطقة «الشرق الأوسط» فقط بل في آسيا الوسطى واوروبا الشرقية (سابقا) وحتى ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي. فالولايات المتحدة، قبل أن تخوض حربها على العراق، تحدت الارادة الدولية في مجلس الأمن وغالبية الدول الأوروبية في الاتحاد القاري واستخفت بكل المظاهرات المليونية التي جرت على دفعات واحيانا في وقت واحد في اكثر من 60 دولة ومدينة في العالم... ونجحت في اختبار قوتها وكان لها ما ارادت من دون ان تواجه ممانعة دولية فعلية. فاذا كان هذا هو وضع واشنطن قبل احتلال العراق فكيف سيكون عليه الأمر بعد ان انعش الفوز العسكري معنويات صقور «البنتاغون» واشرارها؟
هذا الرأي، وهو وجهة النظر الرابعة، يقرأ الوضع الاقليمي في منطقة «الشرق الأوسط» بمنظار دولي ويرى ان ما حصل في العراق هو «سابقة» في العلاقات الدولية المعاصرة ولا يجوز مقارنة الحرب على العراق بتلك الحرب التي حصلت على افغانستان بذريعة ملاحقة تنظيم «القاعدة» وحليفه نظام «طالبان»، فالحرب على افغانستان تختلف في جوهرها السياسي - الدولي عن تلك التي وقعت على العراق. الحرب الأولى اتبعت الاسلوب القانوني والشرعي مستفيدة من الاجواء الدولية المستنكرة لما وقع في نيويورك وواشنطن ولاقت التأييد من مختلف دول مجلس الأمن وصدرت قرارات عن المنظمة الدولية تجيز استخدام القوة العسكرية للرد على هجوم ارتكبه نظام كابول ضد الدولة الاولى في العالم.
الحرب على افغانستان نالت التأييد السياسي وحصلت على غطاء الدول الكبرى ودول مجلس الأمن وتمتعت بشرعية قرارات الأمم المتحدة. وبالتالي جرت وقائع الحرب تحت السقف الدولي وبمعرفة ومساعدة ودعم مختلف دول العالم وربما معظم شعوبه. بينما الحرب على العراق وقعت على نقيض افغانستان فهي جاءت بالضد من دول العالم ورغم انف مجلس الأمن ولم تتمتع بأية صفة قانونية أو سياسية او شعبية حتى في شوارع واشنطن ونيويورك. فالحرب على العراق جرت من دون غطاء دولي وكسرت سقف العلاقات التي ترعاها المنظومة الدولية في الأمم المتحدة... ولذلك تعتبر «سابقة» في العلاقات وتوازن المصالح الدولية وهي ربما اسست مفاهيم استراتيجية جديدة غير تلك التي كانت سائدة حتى لحظة الحرب على افغانستان.
أهمية الرأي الرابع انه يدرج الحرب على العراق في سياق دولي مختلف ولا صلة له بتلك الحرب التي جرت في افغانستان. ولذلك يستنتج نظرية مختلفة عن تلك التي تقول ان الولايات المتحدة بحاجة إلى وقت طويل لتشريع هجومها الجديد على دول الجوار الجغرافي السياسي للعراق. هذا الهم الاميركي انتهى مع احتلال بغداد. وواشنطن الآن، بعد الذي حصل، ليست مضطرة للعودة من جديد إلى مجلس الأمن واخذ موافقة دوله الكبرى على معركتها. فالسابقة حصلت وفي ضوء نتائجها تستطيع الولايات المتحدة تأسيس حروبها الجديدة من دون عودة إلى الأمم المتحدة.
اذن هناك قراءات مختلفة للانذارات الاميركية التي تطلق شمالا ويمينا... وهي في مجموعها تؤكد ان التهديدات جدية وليست للتخويف والتهويل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 241 - الأحد 04 مايو 2003م الموافق 02 ربيع الاول 1424هـ