العدد 241 - الأحد 04 مايو 2003م الموافق 02 ربيع الاول 1424هـ

في كل تجربة أخوضها أنسى كل ما أعرفه وأصل إلى حالة الذاكرة الجديدة

أجرى الحوار - حسام أبوإصبع 

تحديث: 12 مايو 2017

سواء اتفقت أو اختلفت معه يبقى المخرج المسرحي عبدالله السعداوي شعلة من النشاط... فإن أعلن الجميع تطليقهم للمسرح بأي حجة كانت، تجده لا يزال متمسكا بحمله، غير آبه ولا مكترث، انه لا يرى الحياة إلا من خلال المسرح، فالمسرح عنده الحياة، وكل شيء في هذه الحياة هو أحد الهوامش الملحقة بالمسرح... عبدالله السعداوي فنان قدير، لم يكن في يوم من الأيام طالب شهرة، أو باحثا عن أي شيء سوى المسرح.

للسعداوي رحلة شائقة وشائكة، إذ أعلن العام 1987 بداية مشواره من خلال نادي مدينة عيسى، ومنذ ذلك التاريخ وأسئلة المسرح عنده تتنوع وتتعدد وتتشظى... لم يوقف نشاطه غياب خشبة، أو إحجام جمهور... إن السعداوي حكاية جميلة من حكايات المسرح عندنا... استوقفناه وكان لنا معه هذا الحوار:

ما البوصلة التي ترشدك في عملك؟ وهل توجد خريطة دالة تقودك إلى فضاء معين من فضاءات المسرح، أم أن القضية برمتها تخضع لعوامل غير مهندسة بدقة، وبمعنى آخر هل هناك خط عمل واضح يقود خطواتك في المسرح، ومختلف مختبراتك التي تجريها، أو أجريتها؟

- في حقيقة الأمر هناك خط سير واضح بالنسبة إليّ على الأقل، وأيضا كل عمل مسرحي هو الذي يحدد كيفية التعامل معه فالفنون أو المسرحيات تتشابه لكن العروض تختلف وخط السير يرتكز منذ «الرجال والبحر» إلى المسرحية الحالية على ثلاثة محاور رئيسية: الممثل، المشاهد، المكان/ الفضاء، فقد كانت الإرهاصة الأولى الرجال والبحر إذ تم التمثيل في فضاء خشبة نادي مدينة عيسى وهي خشبة متواضعة، مسترشدا بالمسرح الفقير في امكاناته ومن خلالها حاولت إغناء الممثل جسديا في إطار الخشبة فكل ما كان متوافرا ستارة سوداء والشجرة العارية التي وجدناها بالمصادفة ملقاة في الشارع وبعض الطارات والعصي وطبل وستائر تم استغلالها بطريقة المسرح الخشن فلقد أوقفت المسرحية لفترة وجيزة بعد سقوط أحد الممثلين من فوق الخشبة إلى الصالة ثم صعوده مرة أخرى ومن هذه الحركة كنت أريد أن أستنطق صمت المتفرج ودراسة انفعالاته وأن أبث رسالة بأني سأترك الخشبة إلى الصالة حتى أفتح أمام الاخوة الذين كانوا يتذرعون بعدم وجود خشبة مسرحية جيدة وعدم توافر إمكانات كما هو مثبت في الصحف ثم حاولت في مسرحية «الصديقان» تجريب أسلوب التلقي إذ كان الممثل وسط الصالة محاطا بالمشاهدين وقريبا منه دون إضافة أي إكسسوارات زائدة محاولا وضع الممثل في هذا التحدي الصعب إذ يجرب التمثيل بكل تفاصيل جسده وكانت محطة خوف وقلق خصوصا أنني أتعامل مع ممثلين جدد أخرجهم من حيز الأمان وأعرضهم لتجربة قاسية لاهثة في حوارات طويلة قرابة ساعة ونصف الساعة وكنت أجرب فيها الممثل والمشاهد والمكان خارج شروط العلبة الإيطالية.

أما في «الجاثوم» كانت التجربة تذهب في تحديد المتفرجين وتحت شروط غاية في الصعوبة إذ بدأ مصطلح الديكور يتلاشى ويدخل مصطلح «سينوغرافيا» العرض تداخل فيها المسرح الخشن بتجارب «جروتوفسكي» في تحديد المتفرجين إذ أصبح المشاهد يرى العرض ويرى المشاهد الآخر عبر البرواز ثم كانت العودة إلى الخشبة من جديد في «الرهائن» مع كم كبير من المتفرجين وكان الهدف التجريب على الكتلة والفراغ في تحولات الكتلة داخل الحيز تحت شروط مسرحية مختلفة وأمام مسرحية صعبة على مستوى الإعداد والتمثيل والإخراج، أما في «اسكوريال» فقد حاولت تجريب المسرح المباشر الفوري داخل حيز «الارتجال اللحظوي» وهذا ما أملته الظروف لانشغال الشباب مع التلفزيون. وأجرب مع الممثل أسلوب التمثيل الشرقي مسترشدا بأنثروبولوجيا المسرح لدى «يوجينو باربارا» في خلط الأساليب وعدم تحديدها وكنت أبث أكثر من رسالة في آن واحد وكان هدفي دراسة المشاهد لقوانين التلقي المختلفة كـ «أسلوب اللاخطية» وإعطاء الممثلين فرصة أن يدربوا أنفسهم في أطر أخرى لفتح الأبواب أمام المسرح التجريبي، أما مسرحية «الكمامة» التي تم التجريب في فيلا لاستنطاقها بشكل آخر في إطار مسرحية واقعية وتجريب أسلوب الواقعية و«البريشتية» ومسرح «آرتو» ومراقبتها مع مراقبة المتفرج والممثل والمكان، أما في «القربان» فقد حاولت التعمق في دراسة المتفرج من خلال استجاباته وردود أفعاله أما النجاح والفشل فكلاهما لا يعنيان لي شيئا... وهكذا.

فالمتعة الحقيقية تكمن في التجريب وليس في النتيجة «الفشل - النجاح» وخصوصا أنني لا أطرح نفسي مخرجا أكاديميا عارفا اللعبة المسرحية إنما كل عمل بالنسبة إليّ هو طريقة حياة ومعايشة وانفتاح على أفق أوسع، فكل تجربة محفوفة بالمخاطر والفشل فيها أعلى بكثير من نسبة النجاح، ففي كل عمل أكون مثل أعمى يقود عميانا، وتبدأ الأشياء بالتكشف شيئا فشيئا لي وللممثلين ومن يعمل معي، فكل ما أعرفه عن المسرح أنساه وأبدأ من النسيان للوصول إلى حالة الذاكرة الجديدة وهنا تكمن متعة المسرح وعذابه وقلقه وأرقه فالآخر قد لا يدرك صعوبة العملية إنما يطلب نتائج ولا يدرك أن المسألة هي مسألة حياة وأسلوب عيش وبعث جديد فلكي يوجد مسرحا معاصرا إذ يحتاج الأمر إلى كاتب معاصر ومخرج معاصر وممثل معاصر وأعتقد في النهاية أن المسألة ليست في المنهج إنما في الإنسان، فالإنسان المسرحي أهم بكثير من أطر المناهج. ففي المسرحيات التي أخرجتها لا تجد تحكم منهج معين في طريقة إخراجي إنما تجدني أحاول ألا أكون عبدا للمناهج، فالإنسان والمسرح أكثر شمولية من المناهج لذلك أذهب إلى المجهول كي أتخلص مما هو معلوم الذي يحاول التسيد، فالمعلوم يطرح معرفة ما وكل المعارف قابلة للشك فيها واختراقها والضياع في المتاهة، أما خط السير فكما شرحت لك واضح بالنسبة إليّ على أقل تقدير.

بعد كل هذه السنوات سواء مع بداية تصديك للمسرحيات إخراجا أو قبلها، ماذا أعطاك المسرح، وماذا أعطيت الممثلين بدورك؟

- لم آخذ فرصة كافية لإعطاء الممثل شيئا فكما ترى أن الممثل لدي يتغير وينشغل بظروف أخرى غير المسرح، فلقد عملت مع مجموعة شباب صغار السن كانوا في المدرسة وما أن أنهوا الدراسة حتى انشغلوا في معترك الحياة والبحث عن عمل، البعض منهم غادر والآخر عمل في وظيفة لا تسمح له بمواصلة المسرح، ودخلت أنا في حومة العروض مع ممثلين جدد بعد تأسيس الصواري وآخر انشغل بالتلفزيون ليسترزق لقمة عيشه وهكذا لم تأخذ التجربة مداها الكافي فقد كان هدفي جعلهم يفكرون بأجسادهم إذ ان الممثل عاجز عن إيجاد الصلة بين التفكير الحركي والتفكير الكلامي فقد عبّرت الأوصاف اللفظية عن التفكير الحركي فقط من خلال الرمزية الشاعرية وكانوا يحتاجون إلى رمز صادق مع الرؤية الداخلية، وهذا الاتصال لا يمكن تحقيقه إلا إذا تعلمنا أن نفكر بواسطة الحركة وأن نستخدم هذا التفكير بأهداف إتقان الحركة على المسرح وهي المشكلة المركزية فيه.

وهناك الصوت بصعوبة تدريباته وكما تعلم أن الفريق المسرحي محتاج إلى علاقات إنسانية من نوع فريد وهذا ما كنت أنشده، لكن بتقطع المختبر وفرط المسبحة صار لكل همه، وبدأت من جديد محاولا التماسك بعد أن اكتشفت أن حلمي لم يتحقق وبدل تأسيس المختبر المسرحي أصبحت مخرجا للعروض لا غير.

وقد أفرحتني بعض تجارب الشباب أمثال «سلمان العريبي» و«حسين الرفاعي» في مسرحية «استفاقات» و«خالد الرويعي» و«جمعان الرويعي» و«حسن منصور» و«حسين الحليبي» أما تجربة رضوان فلها وقع خاص بداخلي إذ أنها تتميز بالعمل على الممثلين وحزنت لابتعاد «محمد الحلواجي» فقد عمل معي في «اسكوريال» وفي المختبر المسرحي وسجل جميع التدريبات وكم أتمنى أن يفاجئنا بعرض مسرحي، و«مصطفى رشيد» الذي أكنّ له الحب باعتباره طاقة إلا انه يزداد ابتعادا عن المسرح، فإنني أجد صعوبة والمسألة بالنسبة إلى المختبر تتعقد أكثر عن ذي قبل.

فالممثل يحتاج إلى مرانٍ ذاتي ومحاولة سد رغباته مثل التقليل أو الإقلاع عن التدخين لما له من مضار على تنفس الممثل وبالتالي على الصوت إذ يتم تدريب الصوت في الصباح الباكر لذلك يتحتم على الممثل عدم السهر وممارسة التمارين بشكل جدّي ومسئول. وهذه الجدية مسألة صعبة جدا، أما ماذا أعطيت فأعتقد وبكل تواضع أخرجت المسرح من رؤيته التقليدية للمكان وأدخلت خطاب الجسد في المسرح كمصطلح كان غائبا كما أدخلنا مصطلح سينوغرافيا في مسرحنا وتمت دراسة استراتيجية النص كما أننا حاولنا إشراك المتفرج في قوانين تلقٍّ جديدة لم يألفها الكثيرون لعلها غيّرت مشاهدا واحدا فقط في عشر سنين وهذا كافٍ بالنسبة إلينا ومازلنا نواصل في هذا الاتجاه.

مفهوم التجريب من المفهومات المشكلة، لجهة مدى تقبل الناس لهذا النمط من المسرح، ومن حيث تعاطي الممثلين أو الفنانين الآخرين معه، بعد هذا التراكم هل يمكننا وضع هذا المفهوم أمام الجميع بصيغة واضحة لا لبس فيها، أو أنه لا يزال عندك في حكم الشيء الذي يصعب القبض عليه؟

- التجريب محاولة لاكتشاف المجهول والذهاب في هذا الاتجاه، فهو يرفض استراتيجية التسمية أو التعريف كي لا يتحول إلى مفهوم يتحدد بما هو معلوم وهذا المعلوم يتسيد ويتحكم في الفنان التقليدي الذي يعرف المسرح بشكل أحادي ويؤطره بهذا الشكل فهو لا يطرح على نفسه السؤال المهم ما المسرح؟ وهو سؤال شائك أرق معظم التجريبيين من «ستانسلافسكي» وحتى الآن، والتجريب هو الذهاب نحو اكتشاف المجهول، رافضا للأطر مخترقا إياها يكون هذا الاكتشاف دائم التجدد والثورة، والإجابة لا تأتي إنما يحاول الفنان المضي في اكتشافه لهذا العالم الصعب والمركب في مواجهته لنفسه، للواقع المحيط لتاريخ المسرح وبينه وبين الجمهور في شروط عادات التلقي. أما المحاور التي حاولت التجريب فيها سابقا كاكتشاف قوانين جديدة وأماكن جديدة لمحاولة استنطاقها. وما أن أنتهي من سؤال ما المسرح يعود من جديد للظهور مثل العود الأبدي، والفنان المجرب لا يسكن والسؤال يزداد تعقيدا والمجهول يبتعد أكثر في اقترابنا منه، قد تكون هذه نظرة صوفية كما هو مثبت لديهم لكنها هنا غائمة والمتاهة هي مبرر التجريب عندي والاكتشاف يتم من دون مفهوم بل بتجاوزه كل مرة من دون ضمان ولا يقين بنوع من تجربة المستحيل إذ يسكنها الشك ويعذبها القلق الدائم، وعندي ليس من الضروري تعريف التجريب في المسرح إنما الذهاب في اتجاهه من حيث شيء غير مرئي، وبوصفه طريقة حياة ويكفي مشاهدا واحدا فقط، والمتاهة عندما تزداد قد أكون ماهرا في طرح السؤال على نفسي لكن بالمقابل أعجز عن إيجاد جواب يكون شافيا كافيا بالنسبة إلي، والتجريب عندي لا يعني التجريب في المسرحية إنما كيف أستطيع أن أكون متحولا أي أكون «أنا لست أنا» مثل العلاقة بين الممثل والشخصية وتلك الهوة التي تفصل (أنا الممثل وهو الشخصية) اختصارا صدقني لا أعرف ما المسرح؟ لهذا أجرب وأخون المسرح فالفن هو أن تخون الفن وألا تحمي رأسك بمظلة إنما تخرقها للدخول في «العمى» وكلما قتلنا المسرح كان هناك مبرر للبعث وهذا البعث قد يكون هو التجريب أما بخصوص الجمهور فهو ليس وحدة ثقافية واحدة خصوصا في المسرح متنوع باهتماماته وثقافته وإدراكه للعملية المسرحية، هم قوة مشتتة يحاول المخرج وفريق العمل تجميع هذا الشتات وتكثيفه في بؤرة واحدة وهنا تكمن صعوبة هذه العملية وهنا أيضا يكمن التّماسّ ما بين قطبي العملية المسرحية، نحن نحاول تشييد جسر يتيح للمتفرج والممثل على السواء العبور، الممثل من جهة والمتفرج من جهة أخرى، وعند نقطة تلاقي طاقة الجمهور بطاقة الممثل يصدر الضوء. والأدوات والأساليب كثيرة ومتعددة فليس من المهم تقنينها وتحديدها وهذا ما أحاوله على الأقل بفتح أبواب ونوافذ عدة، إما أن يكون للجمهور ألف عين أو عينان فهذا ليس من شأني، شأني أن أكون منفتحا، والمسرح الحقيقي كما طرحه بروك هو المسرح الذي يكون فيه الاختلاف بين الممثل والمشاهد اختلافا عمليا فقط لا اختلافا مبدئيا، وأنا مع هذا الرأي، فالمسرح كما يقول بدأ سحرا أما اليوم فقد أصبح الطريق معاكسا، فالمسرح لا يكاد يحتاجه أحد والعاملون فيه لا يكادون يحظون بالثقة، ومن ثم فلا نتوقع أن يتجمع الجمهور منتبها ومخلصا، إنه واجبنا نحن أن نقتنص اهتمامه وأن ندفعه للإيمان به، لذلك علينا ألا نخفي أوراقنا وراء الظهر بل نفتح أمام الجمهور أيدينا الفارغة بحسب «بروك» ونريه أنه ليس لدينا سوى أنفسنا، من هنا علينا أن نبدأ ببساطة شديدة، إننا بحاجة إلى طريقة للتفكير جديدة وبأسلوب جديد وليس هناك ما نخجل منه في تغيير الأسلوب.

بعد كل هذه السنوات لا تزال الأسئلة نفسها هي التي تتقافز باستمرار أمام المشهد بوجه عام، والكل ما انفك يتحدث عن الجمهور المستهدف من وراء هذه العروض، فهل تضع في ذهنك قبل أو أثناء تقديمك للعروض المسرحية نوعية معينة من الجمهور؟

- ليس هناك مخرج يضع شروطا نوعية للجمهور ما عدا «جروتوفسكي»، أما أنا فلا أفرض شروطا معينة على الجمهور أو أطلب جمهورا خاصا، وكي أكون صادقا مع عملي يكون الجمهور حاضرا معي وأنا أعمل في البروفات إذ أجعل من نفسي مكان الجمهور ثم اترك مشاهدة العرض للجمهور وهو حرٌّ في تعاطيه مع المسرحية وحرٌّ في رأيه.

لا يهمني إذا فهم العمل أم لم يفهمه، يهمني التعامل مع الحس ومن الحس أنتقل إلى الفكر وليس العكس، وكما تعلم أن المسرح عملية مركبة وهو من أكثر الفنون صعوبة في عملية التواصل فالعلاقة بين الممثل والجمهور أشبه بلعبة التنس، وأنه يجب المحافظة على عدم سقوط الكرة، أحيانا قد نخفق مع المشاهدين همّي ببساطة شديدة كان المطالبة بطريقة جديدة أو منهج جديد وأسلوب جديد غير سكوني في اليوم بل الحياة الداخلية من حيث «الذكريات، المخاوف بشأن المستقبل، زمن المخيلة لخلق أزمنة عدة ومتنوعة» فالزمن السردي يمكن أن يتقاطع في وقت بشكل منشوري - زمن المرايا والانعكاسات - والمسرح يمتلك إمكانات غنية للتعبير تسهم في تنشيط وإقامة المستويات المتباينة لبعث الحياة محفزا الممثلين عبر وخز الشرايين بالإبر لتنشيطها مستهديا بالارتجالات وأحيانا أقذف بتناقضات الشخصية ذاتها في صلب المسرحية وهذا كان واضحا في «اسكوريال» في الجملة التي يرددها الكاهن والملك والمهرج وهي جملة واحدة تتخذ أكثر من بعد وهذا واضح أيضا في حركة مسرحية «مأساة الحلاج» أو «القربان»، لا أحاول تفسير النص باعتباري أعرف ذلك التفسير الذي لا يمتلك إلا رؤية أحادية ولا أسعى إلى تنفيذه إنما أحاول فتح أفق أبعد في النص فالمخرج لا يعكس ولا يعبر ولا يعيد إنتاج النص الدرامي لكنه ينتج - ليس محاكاة باهتة - إنما يحول النص إلى كيان متفرد لا يمكن اختزاله.

للنص دلالاته وللعرض دلالاته كما هو واضح في مسرحية «الكمامة» لا أستطيع شرح أعمالي إنما يمكن أن أشرح خطوات العمل، وعند حذف أي جملة أحاذر كثيرا على رغم أني أحذف كثيرا لكن في اعتقادي أن الحذف يأتي لظروف المسرحة، فمثلا في الكمامة تم حذف الجزء الأخير من المسرحية وهو جزء طويل يتم فيه الحديث عن شخصية «كرابو» لكن هذا الحديث يأتي في غياب الشخصية وهذه هي نقطة ضعف المسرحية واستعضت عنه بحالة المسرحة، ولو عدت للنص فستجد أنه حوار زائد قد يكون له تبريره في النص كأدب، لكن هذا التبرير لا يصمد في حالة العرض وقد تكون تدخلات المؤلف منطلقة من ذات الكتابة المسرحية من دون إدراكه لضرورات المسرحة وأحيانا كثيرة يكون الحذف ضد العرض إذا كان المخرج يحاول تخريب معمارية وإستراتيجية النص، من دون معرفة ووعي، فالمخرج مطالب بامتلاك سلاح الوعي بحالات المسرحة وحالات التلقي ومعرفة الاستراتيجيات لان النص لا يسلم نفسه بسهولة خصوصا إذا كان المؤلف مبدعا ومتمكنا.

من الاشكالات الأساسية التي تطرح دائما باستمرار على تجربتك طبيعة علاقتك بالمؤلف، البعض يتهمك بتمييع هذه العلاقة إلى الدرجات القصوى، وعدم اكتراثك للمؤلف في حضوره المادي، أو حتى في حضوره الماثل في النص الذي كتبه، علما بأن العرض المسرحي عمل جماعي بالدرجة الأولى.

- كما تقول في سؤالك أن العرض المسرحي عمل جماعي بالدرجة الأولى وهذا صحيح على رغم أن كثيرا من المخرجين يبني ثنائية عدائية بين المخرج - المؤلف بحيث أنه يحاول مسخ المؤلف باستعراض العضلات الإخراجية من دون أن يستوعب ما يطرحه النص أساسا فإذا لم يكن المخرج قادرا على قراءة الحلم خارج المسرحية أي ليست لديه قراءات كثيرة في مجالات عدة ومتنوعة ورؤية للحياة وموقف إزاء الأشياء يكون تأويله في مسخ النص إذا لم يكن مراقبا جيدا للوجوه في الشارع في قراءة التجاعيد وبناء حكايات عمّن يراهم وإذا لم يكن قارئا جيدا ومراقبا للحيوانات والأطفال وقراءة الكادرات البعيدة والمتوسطة والقريبة، إذا لم يقرأ الخرافات والإيماءات والأساطير والمنبوذين ممن يطلق عليهم المجانين والفراغ والكتلة إذا لم يهتم بالمسرح لقراءات الدرامتورجية وكل أشكال القراءة كما قلت سابقا يدعي دور موت المؤلف من دون أدنى معرفة بأصول القراءة أساسا فتجد انحرافات النص غير مبررة وللأسف الشديد تجد المؤلف أكثر معرفة من المخرج بالمسرح فتراه يحذف ويغير ويغتصب النص بدل أن يمارس العشق معه وهذا الاغتصاب يتم من منطلق كونه المخرج فقط فهو يتمسك بهذه الحرية المطلقة من ادعاء معرفته المسبقة بذوق الجمهور، فالمسألة عندي ليست حرية مطلقة وإنما اقتراب من النص المؤلف بحب وعشق وصداقة وفرح للتعرف على شخص جديد تمنحه نفسك وروحك وتطلب برجاء أن ينفتح عليك ويقبلك صديقا فتتحاور مع النص من هذا المنطلق، إذا كان المؤلف موجودا فلا مانع من التحاور بشكل واضح بعد معرفة النص في أفكاره الرئيسية وقراءة مفاتيحه من خلال قراءات أخرى تفتح لك الطريق ليس الطريق كله بل تنبعث من إحساس هلامي يشبه الطيف، مثلا إخراج «الجاثوم» لم يتم إلا بعد قراءتي للكلمات المتقاطعة والصور المتقاطعة فالنص عندي كما لدى بروك بمثابة نقطة الانطلاق للعملية كلها، ينير لدي كل الحوافز التي تفجر المخيلة محاولا استدعاء الشك والحدث من خلال تفكيك التنظيم البنيوي المركزي للنص عنصرا عنصرا رغبة في إعادة بنائه وسد ثغراته في هذا البناء وإعادته من جديد بطرق مختلفة مخلصا إياه من الخطية وهذا ما حصل في «سكوريال» و«الكمامة» وما حصل في «القربان» محاولا بناء سيناريو للزمن بحيث أخرجه من عنصر الخطية إلى اللاخطية، الزمن اللاتقليدي زمن يمشي بشكل حلزوني وليس بشكل مستقيم أقصد زمن الحياة المكثف وليس زمن عداد الساعة. أما بخصوص الجمهور ففي اعتقادي أنه يتلمس ويتخلص من بعض إكراهاته ويدخل المسرح كفاعل ومشارك، والجمهور شكل هلامي لا يمكن التحدث عنه ولا يمكن الاستغناء عنه فهو صلب العملية المسرحية وقطبها الأساسي وهو أيضا وحش بألف رأس بحسب مقولة شكسبير، وأنا هنا لا أتحدث عن كثرته أو قلته إنما كحالة لا يمكن للمسرحية أن تتم إلا بوجوده حتى لو كان شخصا واحدا هذا الشخص يجعلنا نكن له الاحترام نحاول أن نعمل لإرضائه وإغوائه في الوقت نفسه، فاعتقد أن المسرح فارمكون بحسب دريدا اذا جاز التعبير





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً