بعد فوزها العسكري في حربها على العراق تحاول الولايات المتحدة تحسين صورتها امام العالم، من دون ان تقدم تنازلات جوهرية تمس ثوابت سياستها الهجومية. فحتى الآن مثلا لاتزال واشنطن تعاتب الدول الكبرى التي عطلت صدور قرار عن مجلس الأمن يغطي الحرب على العراق. بل انها أحيانا تتهم تلك الدول (فرنسا، المانيا، وروسيا) بأن مواقفها المعارضة شجعت النظام العراقي وأعطته اشارات خاطئة عن جدية تهديداتها.
وحتى الآن مثلا تعتبر إدارة البيت الأبيض أن قرار الحرب على العراق هو الصواب بينما مجموع مواقف دول العالم، حتى دولة جارة لها مثل كندا، كانت خاطئة وعلى الدول ان تعتذر من واشنطن حتى تنظر في مصالحها في مرحلة اعادة الاعمار في العراق.
حتى الآن الولايات المتحدة ترى ان قرار الحرب وما أنتجه من تداعيات كان السياسة الصحيحة التي أثمرت الكثير من المكاسب في أسرع وقت... الا أنها تحاول في المقابل ارسال اشارات سريعة إلى الدول الكبرى والقوى الإقليمية المحيطة بالعراق بأن سياستها الهجومية ليست الثابت الوحيد في استراتيجيتها الأمنية (الضربة الوقائية) بل هناك سياسات اخرى دبلوماسية واقتصادية مستعدة إلى اعتمادها في حال لاقت التجاوب المطلوب من تلك الدول المعترضة على منهجية «الحروب الدائمة» التي يقول بها بعض أشرار البنتاغون.
كيف تحاول واشنطن اعادة تقديم صورة الولايات المتحدة إلى العالم الخائف من سياستها الطائشة التي لا تحترم حتى الاتفاقات والمواثيق الدولية في الأمم المتحدة وجنيف؟
يمكن ملاحظة اكثر من مسار على هذا الجانب الدبلوماسي. دوليا ابدى البيت الابيض استعداده للعودة إلى مجلس الأمن لفك الطوق عن العراق بشرط ألايفتح باب محاسبة أميركا على مخالفتها للإدارة الدولية. وايضا ابدى البيت الابيض على المستوى الدولي استعداده لاعادة فتح حوار مع الدول الكبرى المعارضة للحرب والبحث في الديون والاعمار وعقود الشركات النفطية مقابل تسهيل تلك الدول عملية تشريع الحرب وتغطية حصولها بصدور قرار دولي يتضمن موافقة ضمنية على عدم مخالفتها للقانون أو العلاقات الدولية.
إلى جانب المستوى الدولي هناك مستويات مختلفة تحاول واشنطن الاطلال منها على الدول الخائفة من استراتيجية الهجوم الدائم (الضربات الاستباقية) من خلال تسويق سلسلة تحركات تشير إلى وجود تغييرات في التكتيكات الأميركية. مثلا صرحت واشنطن بأنها لا تريد البقاء في العراق وان قواتها ستبقى ما دام هناك «حاجة اليها». وكلمة «حاجة اليها» مطاطة فهي تعني فترة قصيرة وقد تعني إلى الابد اذا استمرت الحاجة اليها.
مثلا حرصت «البنتاغون» على نفي الانباء التي ذكرت ان الولايات المتحدة تستعد للبقاء في أربع قواعد عسكرية في العراق اضافة إلى مطار بغداد. والنفي لا يعني ان اميركا تريد المغادرة بل ربما يعني اعادة الانتشار والتموضع بطريقة عسكرية تخفف الاحتكاك اليومي والمباشر مع الشارع العراقي الذي يبدو انه حتى الان لم يتطبع مع الاحتلال.
مثلا حرصت ادارة البيت الابيض على تأكيد وعودها للسعودية وهي الانسحاب من بعض المواقع والقواعد فور انتهاء العمليات العسكرية ضد العراق وفعلا أبدت واشنطن حرصها على تنفيذ وعودها حين اعلن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ان بلاده لم تعد بحاجة إلى تلك المواقع والقواعد في وقت هناك بعض الدول المجاورة للسعودية ترحب باعادة انتشار القوات الأميركية في مواقعها وقواعدها.
ومثلا ايضا وايضا أبدت واشنطن حرصها على تخفيف حجم قواتها في العراق واستبدال بعض الفرق (المارينز) بفرق اخرى (مشاة) واعادة بعض الطائرات من تركيا واوروبا إلى أميركا كذلك اعادة بعض المدمرات وحاملات الطائرات إلى فلوريدا وكاليفورنيا في إشارات منها إلى ان الحشود انتهت مهمتها العسكرية ووجودها هناك لم تعد له قيمة سياسية او ضرورة أمنية.
الا ان مجموع تلك الخطوات الميدانية لم ترافقها خطوات في تخفيف اللهجة السياسية (التحذيرية والتهديدية) وكأنها تقول ان استراتيجيتها تعتمد سلسلة تكتيكات ولا تكتفي بسياسة واحدة هي الهجوم العسكري على كل معارض ومخالف لمصالحها ومشروعها الدولي العام وتحديدا في منطقة غنية وخطيرة وحساسة تطلق عليها «الشرق الاوسط».
يضاف إلى كل هذه التكتيكات (المناورات السياسية) خطاب الرئيس جورج بوش الانتصاري في مناسبة اعلان انتهاء الحرب على العراق. فالخطاب حاول أن يتبع بعض المرونة من دون ان يتخلى عن ثوابت سياسته وتحديدا «استمرار الحرب على الارهاب». وأبرز اشارات المرونة تركزت على ان ادارته الآن في صدد النظر إلى الداخل الأميركي والاهتمام اكثر بالمشكلات الاقتصادية واعادة استثمار الهجمات العسكرية التي قامت بها ادارته في السنوات الثلاث الماضية في قطاعات المال والبورصة... تمهيدا لخوض الانتخابات الرئاسية في العام المقبل. فبوش في خطابه حاول الايحاء من دون النطق بالكلام إلى ان العراق وافغانستان وآسيا الوسطى ودول بحر قزوين كانت غنائم حرب وتحتاج الولايات المتحدة إلى فترة استراحة (استراحة المحارب) حتى تهضم تلك الفرائس وتوزعها على الشركات والمؤسسات الأميركية وتشارك بها من تريد مشاركته... قبل الانقضاض مجددا على غنائم اخرى في وقت يبدو العالم (وخصوصا دوله الكبرى) في حال ذهول من الصدمات المتتالية التي تلقتها في 18 شهرا الماضية.
والسؤال، هل صحيح ان تلك المناورات العسكرية (تخفيف القوات، إعادة انتشار وتموضع، سحب بعض القطاعات والمدمرات وحاملات الطائرات) جدية أم انها مجرد مناورات سياسية تريد واشنطن من خلالها استيعاب ردود الفعل والاستنفار الذي اصاب الكثير من دول العالم والدول المجاورة للعراق بعد خرق الادارة لكل الاعراف والتقاليد الدولية؟
الجواب عموما يميل إلى اعتبار تلك المناورات العسكرية هي مجرد مناورات سياسية تريد واشنطن منها كسب بعض التبريرات المنطقية لعدوانها على العراق واستيعاب ردود الفعل وتحجيمها بايجاد أسباب تخفيفية للجريمة التي ارتكبتها أمام أنظار العالم وعلى رغم أنفه.
أميركا لم تعتذر ولا تريد الاعتذار بل انها تحمل مسئولية عدوانها الدول التي اعترضت على الحرب. وسلسلة المناورات العسكرية (السياسية) التي أجرتها في الفترة الأخيرة لا تخرج ولا تبتعد كثيرا عن ثوابتها الاستراتيجية في سياستها الأمنية الهجومية (الضربات الاستباقية الوقائية). فحتى الآن لاتزال واشنطن تذكر العالم بأن ما بدأته قبل 18 شهرا لم يتوقف بل انها لاتزال في بداية الطريق. والتوقف الحالي هو مجرد «استراحة» محارب يريدها حتى يلتهم فريسة دسمة... كانت تدعى العراق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 240 - السبت 03 مايو 2003م الموافق 01 ربيع الاول 1424هـ