لماذا يشعر المواطن العربي دائما بالمهانة وانه مهمش، وضائع؟ لماذا يشعر بالهامشية في الحياة...؟ كثيرون هم الذين وصلوا إلى قناعة بعدم جدوائية هذه الحياة، وخصوصا عندما يضيع الرغيف وتموت الكرامة، وهنا يزداد حقد الفقراء ليس على النظام الرسمي العربي بل على أولئك النخبة القليلة ممن راحت تأكل فتات الموائد قانعة من نفسها بالتدجين وبالتصالح المصلحي الخاص.... ومازلت مقتنعا بأن الشعوب العربية ليست شعوبا عدائية مسكونة بثقافة العنف وهاجس التحريض بقدر ما هي متظلمة تشعر بالغبن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يقع عليها، فنظامنا العربي مازال يقنع نفسه بالإعلام وبثقافة «ياجبل ما يهزك ريح»... ومازال يرضي نفسه بكتابات بعض الأميين من الكتاب وببعض الوصوليين ممن رأوا تغييب حقيقة آلام الشارع وتغليفها بالرضا طريقا للحصول على المكتسبات الذاتية والحصص الخاصة... الشعب العربي لا يبحث إلا عن كرامة في العيش، يبحث عن سكن ملائم وعمل مناسب وحرية في التعبير وممارسة الشعائر... لا يريد أكثر من ذلك.
ان بإمكان انظمتنا العربية التصالح مع شعوبها بإعطائها جزءا من هذه الكعكة كي تؤمن حياتها... كي يقنع بوجودها وبكرامتها... الناس أنكهتها التظاهرات والثورات والانتفاضات، وقدمت كل ذلك ليس حبا في العنف وإنما من أجل ان تشعر بوجودها، ومن أجل أن ترى نفسها في تلك المشروعات التنموية الاقتصادية وغيرها... هل كثير على الأنظمة أن تطعم شعوبها؟ ان ترفع من مستواها الاقتصادي؟
إن الله حبا انظمتنا بأموال طائلة، ولو أنها صرفت جزءا من هذه الأموال لانتعش الناس، ولاستطاعت مثل هذه الدول استيعاب حالات الفقر... كيف يكون شعور المواطن الفقير عندما يعلم ان حجم الأموال العربية التي تستثمر في الخارج في الدول الغربية يتراوح بين 500 و800 مليار دولار؟... أموال في الخارج والناس تموت فقرا وجوعا!!!
ألا يحق لهذا المواطن العربي «الغلبان» ان يقتطع له جزء من هذا المبلغ لتعالج به بنيته التحتية ويحفظ له جزء من الكرامة؟ لماذا الدول الغربية راحت - على رغم جشعها - تعطي مواطنيها جزءا من هذه الأموال عبر فتح مشروعات اقتصادية، وعبر تحسين الوضع المعيشي للمواطن في حين مازال المواطن العربي رازحا تحت سطوة الفقر؟ ان الدول هي ذات التأثير الأكبر على سلوكيات الشعوب.
أنا مؤمن بما طرحه الفيلسوف الفرنسي هيليفتيوس في القرن الثامن عشر من «ان الدولة هي التي تؤثر على طبيعة الشعب»، وان اختلفت معه في ان الشعب أيضا يؤثر في الدولة إذا ما أصر على مطالبه، وهذا بحث سنتطرق إليه.
إن بإمكان الدول ان تخلق الحضارة وان تخلق الإبداع وان تنشئ حياة قائمة على السلوك القيمي الخيّر شريطة ان تكون عازمة على ذلك.
لذلك نقول: إن النظام العربي الرسمي بإمكانه الرقي بشعوبه عندما يوفر لها الخبز والكرامة، ويدفع باتجاه ترسيخ قيم العدالة والمساواة. لهذا نرى ان المجتمع هو انعكاس للدولة، فالدولة المرتشية تنجب أجهزة مرتشية ومجتمعا مرتشيا... وعادة ما يكون للفساد الإداري والمالي دور في هدر وضياع الموازنات العامة التي تكون على حساب رعايا مثل هذه الدول...
قلما نجد دولة عربية لم ينهك موازنتها الفساد المالي أو العبث بالمال العام... فالدولة هي المسئولة عن مساوئ الشعب كما أنها مسئولة عن محاسنه، ولنا صور من التاريخ القديم تعزز ذلك.
يقول صاحب الكامل في التاريخ (ص 127 ج 4) وهو يصور انعكاس تأثير الدول على الشعوب: «كان الوليد بن عبدالملك صاحب بناء واتخاذ المصانع فالناس يسألون بعضهم بعضا عن البناء، وكان سليمان صاحب طعام ونكاح فكان الناس يسألون بعضهم بعضا عن النكاح والطعام، وكان عمر بن عبدالعزيز صاحب عبادة، فكان الناس يسألون بعضهم: كم تحفظ من القرآن وكم تصوم في الشهر؟».
وكان لحكيم الصين الشهير كونفوشيوس رأي مماثل، إذ كان يقول لأحد الحكام: «إذا رغبت في الخير فسيكون الناس أخيارا».
وقال رجل لعلي (ع): «إنك عففت فعفّت الرعية» هذا عن تأثير الدولة في الجماهير، أما عن زهد الصحافة وحسن توزيع الثروة فيخبرنا التاريخ ان عليا عثر على أرملة تطبخ الماء فسألها عن السبب فأخبرته انها تسكت به أولادها حتى يناموا... ثم تستطرد الأرملة قائلة: «الله بيننا وبين علي»... على رغم ان عليا شغل بالحرب للذود عن بلاد المسلمين.
وابن الجوزي كان يقول في علي (ع): «لم يخلف دينارا ولا درهما...» على رغم ان أموال المسلمين كانت بين يديه، بل رحل عن الدنيا تاركا وراءه وقفا كبيرا لمصالح الفقراء عرفت حتى بعد وفاته بـ «صدقات علي».
ويخبر التاريخ أيضا - واسمحوا لي إذا ما أمعنت في طرح الأمثلة فلعلنا نتعظ في نظامنا الرسمي بتاريخ المسلمين - أن عمر (رض) امتنع عن تناول الأطعمة الدسمة عندما حدثت مجاعة في زمنه إذ سمي ذلك العام بعام «الرمادة».
صور شتى مازالت مضيئة في تاريخ الإسلام أصبحت في عرف اليوم ضربا من ضروب اليتوبيا والأساطير والسذاجة في الحكم... وهذا مكمن أخطائنا... عندما نعتقد ان السياسة في الحكم لا تتحقق إلا بلغة الحجاج، وان الشعوب مجرد دجاجة تحتاج دائما الى مقولة «أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها...».
مرت دول في التاريخ القديم والحديث فانهارت وسقطت، والسبب الأساسي في سقوطها هو امعانها في النهم والجريمة والفساد وسوء توزيع الثروة فذهبت ضحية الغزو او تمرد الفقراء... عندما رأوا كيف أن الارستقراطيين يحشون بالذهب أسنانهم والملايين تموت على الأرصفة بلا خبزٍ ولا طعام... الأقوال المأثورة تدل اجتماعيا على أهمية التوزيع، فالإمام علي (ع) يقول: «وجعل الله العدل تنسيقا للقلوب».
وقديما قال رسول الله (ص): «النفس إذا أمنت قوتها أطمأنت»... متى يفهم النظام العربي الرسمي ان شعوبه مازالت جائعة، ومازالت لا تعيش استقرارا ولا اطمئنانا بسبب أنها لم تؤمن قوتها... الناس ان لم يوفر لهم الطعام والمسكن والكرامة يصبحون ضائعين لا يمكن ان يغطى صولة جوعهم تلك التصاريح المسكنة التي يتحدث عنها المسئولين في صحافة العالم الثالث.
الحل هو أن تكون الأنظمة صادقة مع مشكلات شعوبها وتنفتح على آلامهم بلجان عملية تترصد للفقر والجوع لا ان ترضى لنفسها بما يأتي إليها من أخبار النفعيين ممن هم دائما يحاولون ان يجمّلوا حتى الجوع ويصفونه «بأنه أمر طبيعي»... لأن الجوع يتحول مع الأيام إلى سخط وغضب، ولو نظرنا بتحليل سوسيولوجي دقيق لأسباب التوتر السياسي طيلة الـ 50 عاما في الدول العربية لعلمنا ان وراءه فقراء أكلتهم الفاقة ونخرهم ذل غياب الكرامة الإنسانية. الجميع في هذا العالم العربي وصل الى قناعة كلفة العنف، وان خيار الجماهير هو الانفتاح على الأنظمة بما يحفظ كرامتها وعزتها، والأنظمة باتت مقتنعة بصدق الجمهور.. ولكن يجب أن يوظف هذا الاستقرار الفكري في تحليل الفقر باتجاه إزالة بؤر التوتر ومواقع الاحتقان من الأمة أما ترك الحبل على الغارب والاقتناع بالتصاريح وبكلام الصحافة الذي «لا يؤكل عيشا» أو القفز على المشكلات بوضعها في خانات التآمر أو عدم الرضا ذلك لا ينهي المشكلة بل يجعلها عالقة... ويبقى السؤال... أين نحن من سنغافورة ومن اليابان ومن هذه الدول؟ لماذا تقدموا ونحن تأخرنا؟ لماذا يزداد مستوى معدل دخل الفرد يوميا وينقص عندنا؟ لماذا أصبحت الصين مرشحة لقيادة عالمية؟ ونحن العرب نزداد تخلفا... لماذا شعوبهم في رقي ونحن نعيش في بيوت من الطين في أكثر قرانا العربية؟ أتعلمون لماذا؟ لأن المواطن هناك هو الحلقة الأقوى والثروة الحقيقية للتنمية، أما في العالم العربي فهو الحلقة الأضعف. وانظر العراق مثالا، وكلنا في ظلم المواطن شرق
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 239 - الجمعة 02 مايو 2003م الموافق 29 صفر 1424هـ