من المفارقات الساخنة التي تعجّ في وسطنا الصحافي، ونحن نستقبل اليوم العالمي لحرية الصحافة في البحرين الذي يصادف اليوم السبت الثالث من مايو/أيار أننا نحتفل به ونحن نسبح ونقاوم في بحر تلوّنت مياهه بدماء مجزرة «حرية الكلمة». عاد الصمت والسكون يتلبّسنا، ونمتلئ دهشة وحيرة وألما للانتهاكات الصارخة لحقوق الصحافيين وغياب التشريعات الصحافية التي تضمن حريات الأفراد، وتكفل قيام «صحافة حرة ومستقلة». فماذا تبقّى بعد أن وُصم الصحافي بأنه «مجرم» من الطراز الأول ليقف مدافعا عن نفسه خلف قضبان السجن؟... وقُذف في الساحة الصحافية البحرينية بداية نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي جسم غريب تطلع إليه الصحافيون باستغراب وتعجب، هو عبارة عن قانون المطبوعات والنشر الجديد الذي يقف عند فوهة القمقم، ويقمع مَنْ يعبّر ويرفع صوته ليعالج مشكلات وهموم المجتمع.
وحين تلوح في الأفق - بين الفينة والأخرى - بوادر إصلاح وتغيير لتصليح «الاعوجاج» الذي وقع، ينبعث الأمل ويمتطي فرسان الكلمة ظهور أحصنتهم ليواصلوا طريقهم إلى التحــــرر والتخـــلص من أغـــــلال القيــــود التي هجرها الغرب منذ قيام الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر الميلادي. ومصطلح «اللعبــة» ربما يفسر الهجمة على حرية الصحافة حين يقول رئيس تحرير «الوسط» منصور الجمري إن تطبيق قانون الصحافة المفترض انه جمّد يخضع لـ «مزاجية» وزارة الاعلام التي تطبقه، وحريات التعبير - اذا ما ظل الوضع على ما هو عليه - في «خطر حقيقي وتدهور». جاء ذلك في اللقاء الذي نظمه قسم الاعلام والسياحة والفنون بالتعاون مع دائرة الإعلام والعلاقات العامة في جامعة البحرين بعنوان: «الإعلام والسياحة والفنون... قطاعات نامية» يوم الثلثاء من الأسبوع الماضي في مقر الجامعة بالصخير.
تحدث رئيس تحرير «الوسط» منصور الجمري أثناء اللقاء مع طلبة قسم الاعلام عن مهنة الإعلام ومستقبلها في البحرين والمصاعب التي تواجهها، وتجربة صحيفة «الوسط» منذ تأسيسها إلى اليوم. وقال الجمري: «أعتقد أن قانون الصحافة الحالي يجب أن ينهزم، وسينهزم، وواضح أن هناك مزاجية وتعرضا شخصيا يحكم تطبيقه، واللجنة المختصة تبحث الآن في تعديله».
«تجريم» الصحافي
وأورد أن هناك «خللا محوريا» في القانون يتمثل في تجريم الصحافي واعتباره مجرما جنائيا. وقال: «توجد طريقتان لتعامل القضاء مع الجرائم التي تقع في المجتمع فهي إما قضاء مدني أوجنائي. وفي دول العالم المتحضرة تحال الصحافة إلى القضاء المدني وليس الجنائي. اما الان فكل ما على وزارة الإعلام لتُلبسك جريمة صحافية أنت بعيد عنها كل البعد هو أن ترفع قضية إلى النيابة العامة، ثم تُجرّ إلى المحاسبة والسجن، وهو أمر خطير جدا ويضر بالبناء المجتمعي وبالخطوات الاصلاحية التي يخطوها جلالة الملك». وأوضح أن قانون الصحافة يمنع انتقاد رئيس دولة توجد لها سفارة في البلاد، وذلك يعني «أننا سندخل السجن لأننا ننتقد يوميا رؤساء الدول الكبرى، ولكن لن تجرّ إلى هناك إلا اذا قرر واشتهت وزارة الاعلام وهي لعبة كُشفت أوراقها».
وردا على سؤال طرحته إحدى الطالبات عن مصير الثمانية والثلاثين تعديلا على قانون المطبوعات التي رفعتها صحيفة «الوسط» إلى وزارة الإعلام، أجاب الجمري «انها الآن في أدراج مكتب الوزير إذ من المفترض أن تعرض على مجلس الوزراء ثم تطرح كمشروع قانون على المجلس النيابي للتصويت عليها». وبيّن أن قانون المطبوعات هو نتيجة القوانين المتسارعة التي أصدرتها الحكومة قبل أسبوع من إنشاء البرلمان في العام الماضي.
مهنة الصحافة
وفي بداية اللقاء تحدث الجمري عن مهنة الصحافة ووصفها بأنها «مهنة المصاعب وبطبيعتها تضايق وتزعج الآخرين»، ولها ارتباط حضاري وثيق مع الشعوب والأمم إذ «يقاس تقدم البلدان بوجود صحافة حرة وشعب قادر على التعبير من دون مضايقة، واذا لم يتحقق ذلك فما قيمة هذا الشعب الذي لا يستطيع أن يعبر عن نفسه. تصور أن انسانا قُطع لسانه فإن قيمته الانسانية تنعدم لعدم قدرته على التعبير، حينها نصبح محنطين وننتظر الأمم الأخرى لتقرَّر شئوننا من دون أن يؤخذ برأينا لأننا لا نستطيع التعبير».
لمحة تاريخية
وتعرض الجمري للمحة تاريخية عن نشأة وتطور الصحافة منذ بداياتها وصناعة الورق وأهمية الوسيط في نقل المعلومات والأخبار، وقال: «الإعلام والسياحة والفنون موضوعات تتعلق بالمعلومات والمعرفة وجمالياتها، وكل ما تتحرك عليه المعلومة لنقلها بين الإنسان وأخيه، وهي مصاحبة لتطورات الحضارة الانسانية. وبالتعرض السريع لحركة المعلومات فإننا نجد أنه منذ حوالي 60 سنة قبل الميلاد بدأ الصينيون الذي كانوا هم الأوائل في نشر البيانات وتوزيعها فكانوا أكثر الحضارات شموخا في ذلك الوقت».
وذكر أنه في العام 751م حدثت أول مواجهة بين الجيش الإسلامي على حدود الصين إذ وقع أسرى صينيون في أيدي المسلمين، وكان يوجد عرف لدى المسلمين أثناء الحرب وهو أن يتم الافراج عن الأسير اذا ما قام بتعليم عدد من المسلمين مهنة يجيدها، وكانت المهنة التي يحترفها الصينيون هي صناعة الورق. وقال الجمري: «منذ ذلك الحين انتقلت هذه الصناعة المحصورة في بلاد الصين إلى بلاد المسلمين، وأجادها العرب وحدثت طفرة علمية في التأريخ يذكرها غالبية المؤرخين. فالورق وسيلة مهمة لنقل المعلومات والمعرفة والعلوم لأنه يبقى ولا يزول بخلاف الوسائل القديمة مثل الكتابة على الخزف المعرضة للزوال، وما لم يكتب على الورق لم يكن يعتبره العرب ذا فائدة علمية. وهو ما ساعد على انتشار دور العلم والجامعات العربية والاسلامية قبل أن تصل إلى الغرب».
سيطرة اليهود
ويذكر الجمري في مواصلة سرده للتطور التاريخي لوسائط المعلومات أنه مع انهيار الحضارة الاسلامية في القرون الوسطى، وبروز الحضارة الغربية مع حركة الاستكشاف والحركة العلمية اكتشفت المطبعة في العام 1439 في ألمانيا . وكان رد فعل المسلمين مخالفا لما حدث في المرة الأولى عند تلقيهم اكتشاف صناعة الورق فقد أصدر السلطان العثماني أمرا بمساندة علماء الدين في فتوى تحرم استخدام المطابع لأنهم (العلماء) اعتبروا أن المطبعة من الممكن أن تحرف القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف فلم يسمحوا للمسلمين لمدة 240 سنة منذ اصدار تلك الفتوى باقتناء مطبعة حتى العام 1720 التي تخترق فيها المطبعة لأول مرة البلاد الاسلامية». ويوضح أنه في تلك الفترة فقد المسلمون الأندلس، ما حدا باليهود إلى اللجوء والهروب إلى داخل أوربا أو الدول الاسلامية.
وقال: «عدد من أولئك اليهود الذين انتقلوا إلى بلاد المسلمين كانوا من أصحاب المطابع، وقد سمح لهم بممارسة مهنتهم بشرط ألا يطبعوا منتوجات ورقية باللغة العربية أو الفارسية أو التركية، ويلتزموا بالطباعة باللغة العبرية أو الإيطالية، فالمطابع التي كانت تعمل في تركيا أثناء حكم الدولة العثمانية كان يمتلكها اليهود فقط وتطبع الكتب اليهودية والمطبوعات الأوربية، وأدى ذلك إلى حرمان المسلمين من حركة التقدم؛ لأنه لا يمكن مساواة الكتابة المكتوبة باليد والمنتجة عبر آلات المطابع» منوها بأن المطبعة هي التي قادت حركة الصحافة والتنوير الثقافي والعلمي في المجتمعات الأوربية.
وأضاف الجمري: «في القرن السابع عشر ظهرت أول صحيفة في ألمانيا، وصدر قانون في بريطانيا سنة 1695 يفسح المجال لحرية التعبير عن الرأي ويمنع ايذاء أي شخص يعبر عن رأيه ويضع شروطا معينة أبرزها عدم التعرض للملك أو الملكة أو المذهب البروتستناني، وعدا ذلك يمكن لأفراد الشعب أن يعبروا ويتناولوا أي موضوع باستخدام الوسائل المناسبة للتعبير». وذكر أنه بعد تلك النقلة النوعية على مستوى الحريات في بريطانيا انتقل عدد كبير من العلماء والمفكرين إليها «وأصبحت هذه الدولة الصغيرة أكبر دولة في العالم كما كانت الدولة العباسية متفوقة بسبب استلهامها تكنولوجيا علمية مثل انتاج الورق». كما أشار إلى أن اكتشاف الآلة البخارية حسّن من انتاج الصحف بسبب استخدامها في مراحل تصنيع الورق، وأدخل الصحافة إلى مراحل أخرى.
صناعة الوسائط
ويواصل الجمري حديثه بقوله: «في منتصف القرن التاسع عشر ظهرت الصورة في الصحيفة، وأهم اختراع بعد المطبعة هو اختراع التلغراف الذي سهل انتقال المعلومة عبر الوسائل الكهربائية وسرّع من انتاج الصحيفة. وبعد ذلك تواصل التقدم العلمي المذهل بسرعة شديدة واخترع الراديو والتلفزيون والكمبيوتر والفاكس والانترنت والديجتال كاميرا، وبإمكان الصحافي الآن أن يقف وسط ساحة الحرب ويرسل تقريرا صحافيا من هاتفه الجوال. واليوم فإن من أكبر الصناعات في بريطانيا هي صناعة الوسائط والفنون». وذكر أن جميع هذه التكنولوجيات ولدت ونمت في الغرب. وأشار أيضا إلى أنه في نهاية القرن الثامن عشر أطلق أحد الفلاسفة البريطانيين وعضو في مجلس العموم مسمّى «المقاطعة الرابعة» على الصحافة وليس السلطة الرابعة؛ «لأنه لم تتضح بعدُ السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكان يقصد بالسلطات الثلاث سلطة الملك والكنيسة والبرلمان، ثم خرجت السلطة الرابعة وهي الصحافة التي يوجد قانون يحميها وتوازي السلطات الثلاث».
تجربة الـ «بي بي سي»
ثم تطرق الجمري في حديثه لتجربة هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطاني «بي بي سي»، إذ ذكر أنها تقوم بواجبها الصحافي في غياب وزارة للإعلام، وأن «لديها استقلالية كبيرة فهي تتحرش بالوضع السياسي، وتزعج الحكومة»، وقال: «للحفاظ على هذه الاستقلالية فإن الـبي بي سي ممنوعة من تمويل نفسها من خلال الدعايات كيلا تصبح تجارية، وهي تموَّل عن طريق ضريبة يدفعها المواطن البريطاني الذي يقوم بمحاسبة ومراقبة أداء القناة، وبالتالي يمتلك الشعب الوسيلة الاعلامية، ولا يستطيع أحد أن يضغط بسياسته على الاعلام. ويقيم المسئولون والسياسيون حسابا للمذيعين، إذ تسهم وسائل الاعلام في وضع الأجندة للسياسيين والاقتصاديين».
وأضاف: «أعتقد أن تقدم أمتنا وحضارتنا ارتبط ومازال بتوفر المعلومة عبر وسائط حديثة أهمها الصحيفة التي تتميز بخاصية القراءة عن غيرها من الوسائط مثل الاذاعة والتلفزيون، إذ تعتبر القراءة هي الأساس ودرجة عليا تسبق الكتابة. وليس مهما فقط كم قارئا يقرأ الصحيفة، ولكن من الذي يقرأها؟». وقسّم مجالات عمل الصحيفة إلى قسمين: خبري محايد يقوم بنقل الخبر كما هو من دون تعليق وتدخل من الصحافي، إذ «كلما اقتربت الصحيفة من حياديتها في نقل الخبر ازدادت شعبيتها»، والجانب الثاني هو الرأي والتحليل، و«لا توجد صحيفة غير متحيزة».
مشروع صحيفة «الوسط»
وعن تأسيس مشروع صحيفة «الوسط» قال الجمري: «كانت الفكرة الأساسية من المشروع هي تقديم مشروع صحافي يشمل جميع فئات المجتمع البحريني، يكون نَفَسَا جديدا تنويريا على مستوى الصحافة البحرينية والعربية، وإنه آن الآون لنتحرك جميعا لفتح صفحة جديدة مشرقة. نحن أول مشروع وطني بعد هيئة الاتحاد الوطني التي كانت مشروعا سياسيا لم يقدر له النجاح، وأول مشروع وطني يتجسد كشركة تجارية ويؤسِّس نفسه من خلال رأس مال محلي من دون مساعدة مالية. نسعى لأن تكون صحيفتنا انعكاسا لمجتمع البحرين، وجزءا من الحركة الثقافية والتنويرية في البلاد».
وذكر أن بريطانيا في القرن السادس عشر كانت تخاف من غزو أسباني، واذا بها تصبح دولة عظمى لا تغيب عنها الشمس لأكثر من مئتي سنة، «فلربما نستطيع أن نقوم بشيء مشابه في بلدنا البحرين لو سمح لنا، ولو كفت وزارة الاعلام عن محاولة ارجاع قانون أمن الدولة من خلال قانون للصحافة، وهو يخالف مسودة القانون الذي صدر عن لجنة فرعية تابعة للجنة تفعيل الميثاق التي رأسها سمو ولي العهد، إذ طرحت هذه اللجنة مشروعا لقانون صحافة متنور ومنفتح ويعطي قدرا كبيرا من الحرية ثم جاءت وزارة الاعلام ومزقت ذلك الاقتراح الصادر، وأصدرت قانونا أسوأ من قانون سنة 1979 وطبقته ضد صحيفة «الوسط».
المداخلات
وشهدت مداخلات الطلبة والأساتذة حوارا عالج مواضع الخلل في قانون المطبوعات والنشر وآفاق المستقبل الاعلامي في البحرين في ظل الظروف الراهنة. وتساءل طالب كلية الحقوق محمود الشهابي عن صحة وجود ضغوط وتهديدات تعاني منها صحيفة «الوسط» من قبل مسئولين في الحكومة، وأجاب الجمري بقوله: «هناك انزعاج من بعض الممارسات. وعندما صدرت «الوسط» انكسرت بعض الاعراف القديمة. وأية صحافة لابد أن تتعرض لمضايقات تتعلق بالدعم المالي ومصالح مراكز النفوذ في المجتمع».
مهنة المتاعب
وسأل أحد الحضور عن طبيعة مهنة الصحافة، هل هي مهنة عادية أم هي مهنة المصاعب والمتاعب؟ وأكد أن قانون المطبوعات الحالي مخالف للأعراف الدولية وقوانين النشر وحقوق الانسان. وأجاب الجمري: «عندما جاءت صحيفة «الوسط» أصرّت على الحِرَفية والمهنية بوجود كوادر لها خبرة على مستوى الصحافة العربية، ونشدد على أن تكون مهنة الصحافة هي جزء من شخصية الصحافي وليس مهنة من أجل كسب الرزق فقط».
ليست موسيقى كلاسيكية
وأجاب الجمري على سؤال لطالبة عن حاجة البحرين إلى ظهور صحف جديدة، وهل يسبق ظهورها قانون المطبوعات أم بعده بقوله: «لا نستطيع وضع ترتيب معين أيّهما يسبق الآخر اصدار الصحف أم تعديل قانون المطبوعات. و قرار اصدار صحيفة هو سياسي أساسا. هناك سوء فهم لطبيعة عمل الصحافة الحقيقية فهي مزعجة، وليست موسيقى كلاسيكية تغنى للوزير أو المدير، هي بطبيعتها هكذا، والشعوب لا تحصل على حريتها إلا بعد جهد ومعاناة».
استراتيجية للإعلام
وطرح الكاتب البحريني علي القميش اشكالية «غياب استراتيجية للاعلام البحريني، وهي مقرونة بغياب الاستراتيجية الثقافية التي أزعم أنها الدافع الحقيقي للاعلام». وقال: «ألا ترى (موجها خطابه إلى الجمري) أن هذا الغياب هو المعضل والمشكل الحقيقي لعدم وجود استراتيجية لإعلامنا؟»، وذكر أن نظرة الغرب للثقافة مبنية على أساس أنها صناعة «بينما هي في الدول العربية واجهة فقط». واتفق الجمري مع الطرح الأخير، واستشهد بالاهمال الذي يتعرض له الفنانون البحرينيون في نقص الأجور واتجاههم إلى المشاركة في الأعمال الدرامية الخليجية، ووجود «فقر مدقع» في قطاع الثقافة على مستوى الدعم والتشجيع والاهتمام
العدد 239 - الجمعة 02 مايو 2003م الموافق 29 صفر 1424هـ