لو استعرضنا مختلف نظريات التعليم والتعلم التي تركت بصماتها في تاريخ التربية الحديث، فإنه يمكن تصنيفها ضمن رؤيتين للقضايا التي تتعلق بالسلوك البشري وطرق تعلمه. أما الرؤية الأولى فتعكسها كتابات وأبحاث انصار المدرسة العلمية التقليدية، بينما الرؤية المقابلة فتتمثل في اعمال انصار التفكير الانساني الجديد الذي يحاول دراسة التربية وقضاياها بحرية أكثر في ابعادها الايكولوجية والانثروبولوجية والثقافية. وفيما يلي توضيح لأهم سمات هذين النموذجين وتطبيقاتهما التربوية.
1- النموذج العلمي التقليدي للعملية التعليمية:
حاول أنصار المدرسة العلمية التقليدية عبر ابحاثهم ودراساتهم المتعددة تقديم التصورات النظرية والمبادئ والقوانين التي تفسر أو تكشف العلاقات السببية والروابط بين المتغيرات المتعددة في العملية التعليمية والتي يمكن من خلالها تقديم نموذج تدريبي يتضمن الكفايات التدريسية التي يحتاج إليها المعلم في عمله، ويساعد على برمجة التعليم وفقا لسلوكيات محددة وهو ما يعبر عنه بالاهداف وتخطيط الاجراءات والانشطة وتحديد نوعية النتائج وفقا للمعادلة الآتية:
مدخلات - عمليات - مخرجات
ففي ظل هذا النموذج يؤكد انصار المدرسة العلمية التقليدية تصورهم الميكانيكي لعملية التعليم الذي يمكن بواسطته هندسة الحوادث في الموقف التعليمي وذلك من خلال اتباع القواعد والمبادئ العقلانية في التخطيط لكل الاجراءات والعمليات قبل وأثناء وبعد عمليات التدريس.
والمدرسة - بوصفها مكانا للدراسة - في ظل هذا التوجه تعتبر وحدة انتاجية تستطيع ان تعمل بكفاءة عند توافر الظروف الموضوعية من علم وتخطيط، ودقة في تطبيق الاجراءات، واتباع صحيح لتوجيهات الجهاز الفني الذي يديره الخبراء والاخصائيون في الميدان التربوي. وبعبارة أخرى، فالمدرسة هي المنشأة التي يتم بواسطتها تحقيق المستوى المطلوب من الانتاج (نسب النجاح) حين يتوافر عمال فنيون مهرة (المعلمون) ومواد أولية وأدوات مناسبة (المنهج وطرائق التدريس) وادارة اشرافية دقيقة (مدير تنفيذي) في تطبيق اللوائح والنظم الخاصة بالمؤسسة. أما الطالب فهو الخامة التي يمكن تشكيلها وصوغها وفقا للمعايير والمقاييس التي يرتضيها الخبراء واصحاب مجلس الادارة العليا للمؤسسة. فالطلبة بمختلف بيئاتهم الاجتماعية وخصائصهم النفسية والعقلية يعتبرون مدخلات في العملية الانتاجية (التعليم)، والعمليات هي ما يقوم به التقنيون (المعلمون) من صوغ وتشكيل وقولبة للطلبة عبر تنفيذ المنهج الدراسي من خلال سلسة من الاجراءات والانشطة التعليمية المتنوعة، والمخرجات هي نتائج التحصيل للطلاب في نهاية الفصل أو العام الدراسي.
وفي ظل التمحور حول المعلم وسلوكياته وإجراءاته طغت فكرة التدريس الفعال وازدهرت ابحاث ودراسات المدرسة العلمية في ثمانية عقود من القرن الماضي مخلفة وراءها ركاما هائلا من التصورات والفروض والقوانين العلمية لادارة الصف، والتدريس، والتقويم، والتعلم، واستطاعت هذه المدرسة ان تزود العاملين في الحقل التربوي بالكثير من أدوات القياس، وقوائم الملاحظة، والاختبارات، والنماذج التدريسية المختلفة التي كان يعتقد بأنها ستساعد المعلمين في تطوير ممارساتهم ورفع كفاءتهم المهنية ودفع خطوات التعليم مئات الخطوات الى الامام! ولكن هل حدث هذا في الواقع؟
وللانصاف، فإن نتائج هذه الابحاث والدراسات اسهمت في تعريفنا بالكثير من الحقائق عن تعلم الانسان وطرائق تعليمه، وأصبح بإمكان المعلم ان يهتدي في ظل هذه الحقائق والمعلومات العلمية الى تخطيط عمله وفق منهج عقلاني لا يعتمد على الاجتهاد الشخصي أو محاولات الصحة والخطأ، وأن يقوم بتنفيذ عمله وفق خطة واضحة يحدد بها سلفا البداية والنهاية ويستطيع متابعة وتقويم ما تم انجازه. ولكن على رغم كل ذلك فإن المدرسة العلمية أخفقت في تقديم نموذج تعليمي شامل ومتكامل يساعد المعلم في تحقيق التوازن بين مختلف الجوانب الفنية والانسانية والاخلاقية في العملية التعليمية، وأخفقت في توفير الظروف التي يبلغ بها المتعلم حريته في ذاته وبلوغ كماله الانساني وهي تختزل كل اهدافه وطموحاته ودوافعه للتعلم في تلك النماذج الميكانيكية للتدريس التي تصادر حرية الاختيار وتفرض عليه دكتاتورية الافكار والمعتقدات.
فالمدرسة العلمية التقليدية ركزت على الجانب الفني لعملية التدريس وأهملت الجوانب الاخلاقية والانسانية وقدمت نظرياتها باعتبارها مسلمات يجب الاخذ بها واتباع تعليماتها كدواء شاف لجميع علل التدريس ومشكلاته. ولكن الواقع الانساني لا يمكن الاحاطة بأسراره وظواهره ودراسته كوقائع ثابتة يمكن فصلها ودراستها باستخدام المنهج العلمي في التفكير، واستخلاص القوانين التي تتحكم فيها. وإذ ان المتغير الرئيسي في عمليات التعليم والتعلم هو الانسان وهو متغير غير قابل للتحكم فيه أو التنبؤ بسلوكه فإن جميع الفرضيات والتصورات التي غلفت بالعقلانية والحيادية لنظريات هذه المدرسة هي في واقع الحال انعكاس للتفكير الشخصي للباحثين في هذا المجال الذين اختاروا عن قصد وتصميم العناصر التي يجب دراستها، وبالتالي نستطيع القول ان ما قدمته هذه المدرسة من نماذج ونظريات لا تصف إلا احد الجوانب من الحقيقة الكامنة وراء دوافع التعلم لدى الانسان وسلوكه.
وقد أوضح Nuthall (1989) بأن نتائج أبحاث المدرسة العلمية كانت محدودة الفائدة بالنسبة إلى المعلمين لأنها تعتمد الموضوعية والتجرد عن المشاعر والعواطف الانسانية منهجية في دراساتها في حين ان التدريس نشاط انساني يتضمن الكثير من الخصوصيات الشخصية، والقيمية، والمحاولات الابداعية المتنوعة. وعلاوة على ذلك فإن هذه النتائج تعطي انطباعا خاطئا بأن هناك علاقة مباشرة بين التعليم والتعلم وبأن التدريس هو عمل يمكن اتقانه بواسطة الخبرة والتكرار! ويضيف Fenstermacher (1989) بأن هذه الابحاث لا تتضمن مفاهيم أو تبريرات لما يحب تعلمه أو عمله، ولا تتضمن أي رأي بخصوص السلوك الصحيح أو الكمال الاخلاقي، ولا تعطي اهتماما او تقدم تبريرا من اجل الالتزامات الاخلاقية.
ويمكن القول ان النموذج التعليمي للمدرسة العلمية التقليدية يتميز بالآتي.
- يركز اهتمامه على دراسة سلوكيات ومهارات المدرس في العملية التعليمية.
- يؤكد العلاقة المباشرة بين التعليم والتعلم (المدرس هو العامل المؤثر والأهم في العملية التعليمية).
- يعطي اهتمامه لدراسة الجوانب الظاهرية من السلوك الانساني ويتجاهل المشاعر والقيم والعواطف الانسانية للمدرس ودورها في العملية التعليمية.
- يؤطر التدريس في الجوانب الفنية التي تعتمد على اتقان الآليات والتقنيات التدريسية، وبالتالي يعطي الانطباع الخاطئ بأن عملية اعداد المعلم هي عملية تدريب للمعلم لاكتسابه مهارات معروفة سلفا ويمكن لأي شخص اتقانها مع مرور الوقت!
- يركز على الجانب التحصيلي في عملية التعلم فهو يربط بين سلوكيات المعلم التدريسية ونتائج التحصيل الطلابي في الصف الدراسي.
وبالنسبة إلى نتائج تطبيق هذا النموذج في العملية التعليمية:
- تصميم المناهج التي تركز على التعليم الآلي والحفظ والتلقين بعنوان الاتقان.
- اعتماد النظرية التجزيئية التي تشجع التعليم التلقيني، وتعطل الحدس البشري والمشاركة الحقيقية في العملية التعليمية (لطول المناهج وتكدسها بالمادة المعرفية).
- استبدال التعلم الطبيعي المتعدد الأبعاد بتعليم اصطناعي يقوم على إتقان كفايات المادة الدراسية ويربط حياة المتعلم بالكتاب المدرسي والمهمات الأكاديمية النظرية.
- استخدام الاختبارات التحصيلية التي تركز على الجانب المعرفي بديلا للتقويم الحقيقي لتعلم الطالب بجوانبه المتعددة المتصلة بالنمو الشامل للفرد.
- تقويم عمليات التعليم والتعلم بالمدرسة بصورة سطحية والتي تنفذ في غالبية الأحيان باستخدام الاستمارات المقننة التي تركز على قياس كفاءة المعلم التدريسية وتهمل الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية للمؤسسة المدرسية.
2- النموذج الإنساني للعملية التعليمية:
جاءت هذه النظرية رد فعل لمكننة التعليم الذي أحدثته النظرية السلوكية للمدرسة العلمية التقليدية، إذ أكدت النظرية الإنسانية على قيمة المتعلم وأهمية احترامه، والتركيز على إشباع حاجاته وميوله وعواطفه بجانب المعارف والمهارات الأخرى.
أما من ناحية التطبيق فتقوم النظرية الإنسانية على فكرة جوهرية ان المتعلم هو محرر العملية التعليمية الذي يجب أن توفر له أفضل الظروف البيئية لتحقيق ذاته وبلوغ أهدافه في حياته الشخصية، وبعكس النموذج التقليدي للمدرسة فإن النجاح لا يرتبط بقدر ما يحرز المتعلم من درجات أكاديمية بل في بذل أفضل ما لديه من جهد وشعوره بالفخر لذلك.
وعملية التعلم هي الحرية في أن يتساءل المتعلم، ويتعجب، ويتخيل من أجل اكتشاف مجهول أو إبداع شيء جديد. وبالتالي فإن عملية التعلم مغامرة مستمرة يستقبل فيها المتعلم كل يوم بعقل مفتوح للمعرفة وقلب مليء بالحب للآخرين، وفي ظل هذه المدرسة يجد كل متعلم مكانا له ولمواهبه، ويسهم كل فرد في المجموعة بتعليم الآخرين مما لديه من أشياء خاصة.
وتسعى المدرسة في ظل هذه النظرية إلى أن تكون صورة مصغرة للمجتمع بكل مشكلاته وأحلامه وإنجازاته، وبالتالي فإن المادة الدراسية هي الحياة نفسها ومشكلاتها وكيفية بلوغ الفرد فيها مرحلة التكامل العقلي والنفسي والاجتماعي بما يؤهله لأن يكون مواطنا صالحا قادرا على تحمل مسئولياته الشخصية وخدمة وطنه بما يحمل من علم ومعرفة.
أما المعلم فهو القائد، والملهم، والمربي، والمساعد، والموجه، والميسر الذي يسعى دائما إلى بذل أقصى ما عنده من جهد في تهيئة الظروف الاجتماعية والتعليمية ليتعلم الجميع في جو تسوده حرية المعتقد واحترام الرأي الآخر، وتقبل جميع الأفكار من دون الحجر على عقول الآخرين أو سد الأبواب في معرفة الحقيقة بطرائق مختلفة. وبالتالي فالمعلم في المدرسة الإنسانية لا يعد طلبته من أجل اجتياز امتحانات أكاديمية، بل يسعى بالإضافة إلى ذلك إلى إعدادهم للحياة عن طريق توفير الفرص الملائمة التي تساعدهم على اكتشاف مواهبهم وميولهم والتعرف على النواحي الإيجابية في شخصياتهم.
ويمكن تلخيص المبادئ الأساسية لنظرية المدرسة الإنسانية في الآتي:
مراعاة احتياجات المتعلمين فهم لديهم قدرات ومهارات غير متماثلة.
اعتبار كل من مفهوم الذات واحترام المتعلم المحور الأساسي في عملية التعليم.
النظر إلى عملية التعلم باعتبارها عملية شاملة للعواطف والأحاسيس والمعارف والمهارات (الجوانب المعرفية والنفسية والاجتماعية).
قيام التعلم على التفاعل بين المعلم والطالب القائم على الود والصداقة، واحترام الرأي، وتقليل الإجراءات العقابية.
يكون التركيز على نوعية التعلم وكميته في الوقت نفسه.
يشترك الطلاب في الأفكار ويعملون جماعيا ويعلمون ويساعدون بعضهم بعضا.
يخطط المعلم والطلاب جميعا لأنشطة وخبرات المنهج.
يعطى الطلاب خيارات مع بعض الضوابط، وترتبط الحريات بمستوى نضج الطلبة وتحملهم للمسئوليات.
يقوم التعلم على الخبرة والاستكشاف والتجريب.
وترسيخا لهذه المبادئ بذلت عدة محاولات لإخراج التعليم من دائرة التقنين العلمي والانفتاح على المعاني الإنسانية الرحبة للتربية كمدرسة ديوي التجريبية، ومنهج المشروعات لوليام كلباثريك، والمدرسة المفتوحة وغيرها من المبادرات الإبداعية التي لم يحالف الحظ جميعها في البقاء بسبب التعقيدات الملازمة لتطبيقاتها من الناحية العلمية والاقتصادية وعدم وجود الدعم الاجتماعي والسياسي المناسب.
وربما يكون المطلوب الآن هو البحث عن الطريقة التي يمكننا أن نوفق بها بين مثالية الاتجاه الإنساني في التربية - إن صح التعبير - وواقعية الاتجاه العلمي وهذا ما سنحاول التطرق إليه لاحقا في حديثنا عن رؤية جديدة للتعليم والتعلم
العدد 238 - الخميس 01 مايو 2003م الموافق 28 صفر 1424هـ