حين ألقى الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل محاضراته عن «فلسفة التاريخ»، استبعد هيغل أميركا من مخططه التاريخي. فالفيلسوف كان يتحدث أمام طلبة الجامعة عن الماضي لا عن المستقبل. كل ما ذكره عن أميركا اقتصر على فقرتين أو فكرتين، الأولى تقول: إن أميركا لم تتبلور شخصيتها، وتوقع أن تعلب دورا تاريخيا في المستقبل. الثانية: إن الدولة في أميركا مسألة مركزية، وهي تقوم على فكرة تأسيسية تعتمد الدين أساسا لنهوضها.
آنذاك كان هيغل يعلق على بداية ملاحظات أخذت تتكون لديه عن هذه الدولة الجديدة. جديدة في تاريخها وجديدة في أسس تكوينها الايديولوجي ـ السياسي. فهي برأيه مختلفة عن منظومة الدول الأوروبية أو الآسيوية، لذلك أخرجها من مخططه التاريخي حتى لا يحكم عليها بمنظار الماضي في وقت كانت شخصيتها لاتزال تمر آنذاك (مطلع القرن التاسع عشر) في فترة التكوين، ولم تتبلور في قالب واضح يمكن إصدار رأي نهائي فيه.
الملفت في كلام هيغل هو التقاطه مسألة الدين والتدين في تأسيس الدولة الجديدة. فهو كان يعلق على تلك الجماعات الدينية الأوروبية التي كانت تحمل تصورات عن العالم المثالي والطهراني، وكانت تنظر إلى المستقبل خارج سياق التطور الأوروبي المجبول آنذاك بالعنف والحروب والاقتتال الأهلي إضافة إلى الفساد والتدهور الخلقي.
العالم الجديد آنذاك كان أرض الخلاص من حثالات أوروبا وأمراضها وأدرانها، لذلك اتجهت الجماعات الدينية (الخلاصية) إلى التخلص من أوروبا (العالم القديم) والسفر كمجموعات عقائدية إلى أرض جديدة تبني عليها تصوراتها وتؤسس عليها رؤيتها عن عالم المثل البعيد عن عالم الوقائع الموجود في أوروبا.
ملاحظات هيغل كانت في محلها، فهو بقراءة بسيطة وسريعة اكتشف الجوهر السياسي للدولة الجديدة. فهي مختلفة في تأسيسها ومستقبلها مجهول، إلا أنه توقع لها أن تلعب دورا مميزا في التاريخ المقبل (المستقبل الذي نعيشه الآن).
نحن الآن نعيش مستقبل أميركا الذي توقعه هيغل في محاضراته عن «فلسفة التاريخ». فأميركا الآن تقود العالم وتنفرد في قيادته وترفض مشاركة أي طرف أوروبي أو آسيوي في تقاسم نظام الهيمنة الذي تعمل على نشره بقوة السلاح واستراتيجية «الحروب الدائمة» ضد شعوب متخلفة ومسكينة وفقيرة.
وملاحظة هيغل عن تدين «الدولة الجديدة» ليست الآن بعيدة عن ايديولوجية الخلاص التي تبشر بها حفنة من المجانين في «البنتاغون». فهؤلاء يسترشدون ببعض الأفكار «المسيحية المحافظة» أو أفكار «المسيحية الصهيونية» التي تؤمن بصراع الخير مع الشر (ايديولوجية الرئيس السابق رونالد ريغان) ومعركة الحسم النهائي التي تسبق «بناء الهيكل». هذه الأفكار التي يقول بها ما يسمى بتيار «المحافظين الجدد» الذي ظهر بقوة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي، تدفع مؤسسات الولايات المتحدة نحو مغادرة السياسة التي كانت تسيطر على البيت الأبيض في فترة «الحرب الباردة» والعودة إلى الأصل في مرحلة التأسيس، وإعادة إنتاج تلك الأفكار الدينية التطهرية (الخلاصية) في ايديولوجية خلاصية معاصرة تحمل رسالة كونية في معركة الخير مع الشر.
الآن نشهد للمرة الأولى منذ زمن طويل انتقال الدولة الأميركية من السياسة البرغماتية في علاقاتها الدولية مع أوروبا وآسيا وإفريقيا إلى سياسة ايديولوجية ترسم علاقاتها في عالم الأفكار لا حدود المصالح. وانتقال واشنطن في رؤيتها الدولية من البرغماتية إلى الايديولوجيا يفسر إلى حد كبير تغليبها سياسة القوة على فكرة توازن المصالح وتعدد مراكز القوى وتفاوت مشاعرها ونظرتها إلى العالم.
هذا النزوع من السياسة إلى الايديولوجيا يحمل في باطنه الكثير من الأوجاع والمتاعب لشعوب العالم الآخر والمختلف عن تاريخ أميركا والتكوين الديني لشخصيتها التي تأسست أصلا على فكرة تطهير الأرض الجديدة من أصحابها (الهنود الحمر) وإعادة تأسيس ثقافة تبدأ من الصفر لاغية كل ما سبقها من حلقات زمنية.
وفي هذا المناخ التاريخي (الهستيري) يعلن اليوم الرئيس الأميركي جورج بوش الانتصار على العراق من على ظهر مدمرة شاركت في الحرب، وذلك في إطار مشهد احتفالي تجري طقوسه السحرية في قاعدة عسكرية.
هذا المشهد لم يتوقعه هيغل حين كان يقرأ تاريخ الماضي وفلسفته متعمدا إهمال أميركا لأنها دولة جديدة في التاريخ لاتزال شخصيتها في طور التبلور. إلا أن هيغل التقط باكرا جوهر تلك الدولة هو: النزوح من العالم القديم إلى الجديد تاركا خلفه كل شيء ما عدا نصوص تَعِدُ بواقع مثالي لا صلة له بأرض الواقع ولا بتاريخ البشر. فيا له من تاريخ... ويا له من «انتصار» على العراق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 238 - الخميس 01 مايو 2003م الموافق 28 صفر 1424هـ