إن ما بدأ العالم مشاهدته منذ ما قبل الحرب على مسرح بلاد الرافدين والذي تجلى فيما يشبه المواجهة بين معظم شعوب العالم وغالبية حكوماته على اختلاف اتجاهاتها من جهة وبين ما سمي «بصقور» الادارة الاميركية ما ظهر منها وما خفي واكتفى بالاخراج من جهة اخرى. هذه المعركة - التي يبدو أنها لاتزال تتصف «بالعالمية» كما بدأت - هي في الحقيقة دخلت فصلا آخر. قد يكون من أهم فصولها والذي اتسم بحسم المواجهة العسكرية وتحقيق النصر لصالح الطرف الثاني (الادارة الاميركية). وكما هو مألوف فإن مرحلة ما بعد الحرب تظهر اختلافا في مواقع المتحاربين بصفوفهم الأمامية والخلفية وهو ما يعبر عنه باختلاط الاوراق في أتون المعركة.
والسؤال الملح هو: ماذا بعد الحرب العسكرية؟ وهل تضع أوزارها بتوزيع الغنائم التي بدأت سرا تحت غبار المعركة؟ والجواب بطبيعة الحال مرتبط ارتباطا كبيرا بمدى ما تحقق من اهداف للابطال المهاجمين.
ان «اممية» المعركة وكما بدت هي في حقيقة الامر صدى عملية انقاذ لوجستية لايديولوجية الامبريالية المتطرفة والتي اطلق عليها «العولمة» تسترا بشعارات مزعومة. وبالتحديد هي انقاذ «لمحور العولمة» المتمثل في الاقتصاد الاميركي بشركاته الكبرى. وان هذا النهج في إدارة اقتصاد العالم وكما اسموه «العولمة» ما هو إلا محاولة تطبيق «لايديولوجية بديلة» خطط لها صقور الجمهوريين الريغانيين (نسبة إلى الرئيس الاميركي رونالد ريغان بمؤازرة وتأييد المحافظين الثاتشريين (نسبة إلى مارغريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة) وهذا ما تفسره طبيعة حال تأييد المحافظين البرلمانيين لحكومة «طوني بلير» في الوقت الذي يفتقر إلى تأييد حزبه (العمل) ابان هذه الحرب واهدافها، وقد تم التخطيط لهذه الايديولوجية في الوقت الذي عملوا على كسب الحرب الباردة، بدءا بانهيار المعسكر الاشتراكي في اوروبا حتى انهيار الاتحاد السوفياتي وذلك منذ منتصف الثمانينات في القرن الماضي وكلنا نعرف مسيرة سياسة العولمة وكيف بدأت وتفاصيل اركانها وما واجهته من صعاب ابان محاولة تطبيقها ومدى ما لاقته من معارضة دولية على الصعيدين الرسمي والشعبي وتداعيات ذلك على الاقتصاد الاميركي والذي يمثل محور العولمة. وما زاد الطين بلة، حوادث 11 سبتمبر/أيلول من انهيار برجي مبنى مركز التجارة العالمي الذي يمثل ركنا اساسيا من اركان «العولمة». (لمزيد من التفاصيل انظر كتاب «العولمة والتنمية الاقتصادية» للكاتبة).
وقد لا يكون من المصادفة ان ينهار البرجان بعد عودة الجمهوريين إلى البيت الابيض العام 2001. ان ما شهدته ايديولوجية «العولمة» من تقهقر وكما اوجزنا سابقا في الوقت الذي اراد بها واضعوها السيطرة والهيمنة على العالم من خلال ادق وأهم مفاتيحه وهو الاقتصاد وذلك بهدف تكريس نظام عالمي بديل احادي القطبية. هذا التقهقر «للعولمة» والذي حال دون تحقيق اهدافها «المعلنة» في الرخاء الاقتصادي وفي الشفافية والديمقراطية دفع بمخططيها الجمهوريين في البيت الابيض إلى استخدام القوة العسكرية انقاذا ودعما لترسيخ هذه الايديولوجية وخصوصا اذا علمنا ان من بين صقور هذه الادارة من يملك مصالح حيوية في شركات صنع الأسلحة، ناهيك عن حقيقة ان دعم هذه الشركات بشراء انتاجها من السلاح يمثل جزءا من عملية الانقاذ للاقتصاد الاميركي أي لمحور العولمة. كما ان عضوا آخر توافر في هذه الادارة وهو اللوبي الصهيوني، ما ادى إلى ايهامها بعد حوادث 11 سبتمبر بصحة نظرية الربط بين الأمنين: القومي الاميركي والقومي الاسرائيلي، ما دفع هذه الادارة لاتخاذ قرار الحرب.
وأما لماذا على العراق؟ فيمكن تلخيص الاجابة في النقاط الآتية:
اولا: توافر معلومات لدى هذه الادارة بأن الاحتياطي النفطي العراقي المستقبلي سيصل إلى 338 بليون برميل وهو الاعلى بين الدول المنتجة للنفط بينما لا يجاوز الاحتياطي الاميركي 30 بليون برميل مع العلم بأن كلف انتاج برميل النفط العراقي لا تتجاوز خمسة دولارات في الوقت الذي تبلغ ما يقارب خمسة عشر دولارا في الولايات المتحدة الاميركية.
ثانيا: لاشك في ان هذه الادارة وجدت في العراق لقمة سائغة بعد اضعافه بالحصار مستغلة في ذلك واحدا من شعارات العولمة المعلنة وهو تحقيق الديمقراطية وتحرير العراق من الديكتاتورية.
ثالثا: بما ان السيطرة والتحكم في الاقتصاد العالمي لا يعني ان يتحقق خارج نطاق السيطرة على اسعار الطاقة، فإن امتلاك النفط العراقي سيسمح للادارة الاميركية بالتحكم في سياسة اوبك واسعار النفط، وخصوصا اذا علمنا أن كل انخفاض لسعر برميل النفط بنسبة 1 يؤدي إلى زيادة واردات الولايات المتحدة الاميركية بليون دولار اذ ان الاخيرة تستورد تسعة ملايين برميل يوميا وان ما يقارب 40 في المئة منه من دول مجلس التعاون.
رابعا: ان العراق بقيادته السابقة قبل الحرب لن ينضم إلى اتفاق «الجات» ويخضع لموجباتها المؤذية لسياسة اقتصاد السوق وعلى رأسها الخصخصة لقطاع النفط، وأخيرا وقد لا يكون آخرا سياسة القيادة العراقية السابقة ومواقفها المتعددة من قضايا الأمن القومي العربي، وهو ما يتعارض تماما مع مضمون واهداف ايديولوجية «العولمة» التي خطط لها ابطال هذه الحرب، ودليل القارئ ما يسمع اليوم من تكهنات اقامة أحلاف اقليمية خارج نطاق الجامعة العربية!
يتضح مما تقدم أن الحرب «الاممية» على ارض ما بين النهرين لم تنته بعد وأن الغنائم لم يحسم أمر توزيعها بعد بين «الابطال» المغيرة المنتصرة، وان شعب ما بين النهرين مازال امام معركة كبرى محفوفة «بأذكي» الالغام بعد ان واجه «اذكى» القنابل، وكما يبدو من واقع حال المعركة فإن أخطر الغامها استغلال العدو تعدد الاثنيات والمذاهب والايديولوجيات: وما تفرزه من تضارب في الاهواء وتنافر في السياسات اضافة إلى ما يمكن ان تسببه ادارة الاعلام من تشويش في هذا الصدد ولذلك فإن اقوى ما يبطل هذا اللغم هو اصرار العراقيين على نبذ الفرقة بينهم وتجاوز جروح الماضي والابتعاد عن خوض وتصنيف بعضهم بعضا بالعهد البائد... والعهد المقبل. ان زعزعة الثقة في بعضهم بعضا يدفعهم إلى اللجوء إلى العدو المحتل للحماية من بعضهم بعضا وهذا عز ما يطلبه العدو المحتل. هنا لابد للشعوب العربية ممثلة بمؤسساتها المدنية والتي هي في الخطوط الخلفية للمعركة أن تعي مخاطر هذا اللغم وألا تقع فيه.
اما اللغم الآخر الذي يواجهه شعب العراق في معركته الحالية فهو ان يستغل العدو المحتل لقدراته عامل تدني الاوضاع الاقتصادية والمعيشية لشريحة كبرى من المجتمع العراقي فتدفع الحاجة بعضهم إلى التعامل مع العدو سرا أو جهرا وتحت مختلف المسميات.
ان اممية المعركة التي اريد لها ان تجري في العراق وبدماء الشهداء العراقيين على مسمع ومرأى الأمم المتحدة ومجلس الامن بأعضائه واقطابه الدائمين، هي في الحقيقة شكل من اشكال اختبار تثبيت الايديولوجية البديلة بقيادة القطب الواحد والتي سبق ولونت بتعابير «كالعولمة» لتقنع الحكومات وتوهمها بأن هذه «العولمة» من صنيعة ولفائدة جميع الدول، بينما المحرك والمستفيد الاكبر والاوحد هو تلك الطغمة من الجمهوريين اليمينيين والمتصهينين ولا ادل على ذلك من نتائج توزيع الغنائم التي اسفرت عنها حتى الآن والتي كشفت ورفعت الغطاء الذي تتستر وراءه هذه الطغمة المجرمة في حق البشرية جمعاء والتي أضحى من واجب المجتمع الدولي ان يتصدى لها بما أوتي من قوة. اما المعركة الدبلوماسية الحامية الوطيس التي نشهدها منذ ما قبل الحرب وبعد ان وضعت هذه الحرب اوزارها والتي لاشك ان تستمر ما هي الا تعبير عن محاولة هذه الدول «المخدوعة» الدفاع والخروج من الكمين الذي نصب لها وذلك بأقل ما يمكن من الخسائر في اقتصاداتها التي خلقت منها «العولمة» قاطرة صغيرة تابعة في القطار الاميركي الكبير، وكلنا يدرك معنى الوجهين الاقتصادي والسياسي في العملة النقدية.
ان اممية المكاسب السياسية التي سيجنيها ابطال المعركة العسكرية لاشك كبيرة وحاسمة اذا علمنا على سبيل المثال بأن انخفاض سعر برميل النفط إلى عشرين دولارا سيؤدي إلى ضخ ما يقارب مئة وخمسين بليون دولار إلى الاقتصاد الاميركي اي اعلى بكثير من عوائد برنامج خفض الضرائب على الشعب الاميركي الذي اعده مستشارو الرئيس بوش في نهاية العام 2001. ان محاولة الظفر بمثل هذه المكاسب الاقتصادية السياسية هو جل ما يهدف اليه ابطال المعركة الدبلوماسية بعد ان فاتهم دور بطولي في المعركة العسكرية.
والسؤال: كم ستطول المعركة الدبلوماسية؟ وهل يمكن التنبؤ بنتائجها؟!
واما الاجابة فهي لا تختلف عن سابقتها في السؤال الاول وهي ان حسم المعركة الدبلوماسية مرهون بمدى ما تحقق للابطال المهاجمين في المعركة العسكرية من اهداف استراتيجية وهي ما عبرت عنه صحيفة «واشنطن بوست» في حدها الادنى بأن مسئولي البيت الابيض ووزارة الدفاع (البنتاغون) يميلون اكثر فاكثر إلى تسليم زمام الامور بسرعة إلى حكومة عراقية انتقالية تتولى قيادة البلاد نحو الديمقراطية واقتصاد السوق وهو ما سبق وعبر عنه أمير هاشمي «بعولمة العراق» او كما اطلق عليه رئيس روسي «ديمقراطية الامبريالية
إقرأ أيضا لـ "وداد كيكسو"العدد 237 - الأربعاء 30 أبريل 2003م الموافق 27 صفر 1424هـ