نتفهم الفرحة العارمة بالنصر التي تسود الاوساط الرسمية والشعبية في الكويت بعد سقوط نظام الطاغية صدام حسين، وخصوصا ان دولة الكويت كانت قد وقفت صفا واحدا مع قوى التحالف الدولي في حربه على العراق، ولعبت دورا علنيا ونشطا ومباشرا ومستفزا للشارع العربي من منطلق مشاركتها الفاعلة في تلك الحرب. وكانت تجربة الكويت الأليمة مع النظام العراقي هي الخلفية التاريخية التي ولدت الشعور الهائل لديها ليس فقط بالنصر، وانما بالانفراج والارتياح العام بعد زوال الغمة الصدامية والتهديد المباشر لوجودها وأمنها الوطني.
ومنذ الحدث الارهابي داخل الولايات المتحدة الاميركية في يوم الحادي عشر من سبتمبر/ايلول 2001 لعبت الكويت اوراقها السياسية بمهارة. فهي استطاعت ان تقرأ بشكل صحيح مؤشرات الاستراتيجية الاميركية الجديدة «لمحاربة الارهاب ونشر القيم الديمقراطية في المنطقة العربية». وكانت الولايات المتحدة قد قررت أن غياب الثقافة الديمقراطية، وقيم الحداثة، وحقوق الانسان، بالاضافة الى فشل التنمية الاقتصادية والبشرية، وانتشار الفقر، وتنامي العنف وعدم الاستقرار، وظهور الاسلام السياسي المتطرف، شكلت بمجموعها ثقافة الارهاب العربي المهددة لأمنها القومي. كما سارعت الكويت الى تأييد الاستراتيجية التي لخصها الرئيس الاميركي في كلمات قليلة مليئة بالتهديد والوعيد: «يا انتم معنا، يا ضدنا!»، ورأت من خلالها فرصتها التاريخية لضمان استمرار بقائها بوصفها دولة ذات سيادة، وخروجها من أسر التهديدات العراقية لوجودها والفزع القاتل من استمرارها في الوقوف على حافة الهاوية، ما ذكرني بشعور النديم «داموكليس» في بلاط الطاغية حاكم «سيراكوسا» القديمة عندما اجلس في حفل عشاء مباشرة تحت سيف مسلول تم تعليقه من السقف بخيط رفيع!
وهكذا وجدت الكويت نفسها أخيرا، كما أرادت، وسط نصر ساحق ونهائي على نظام عراقي دموي لها معه الكثير من التجارب المرعبة! ولكنها ليست فقط نشوة النصر هي التي بدأت تطفو على السطح في كويت هذه الأيام. هناك بعض المؤشرات لبروز عداء صريح وعلني نحو بعض الأنظمة العربية، وبالتأكيد نحو الأمين العام للجامعة العربية وكل الذين وقفوا ضد العدوان الاميركي. ويبدو الامر وكأن الكويت قد بدأت في استثمار ما تراه ثقلا سياسيا كسبته لنفسها داخل الساحة السياسية العربية بعد النصر العسكري الذي حققته قوى التحالف في حربها على العراق. وحتى مع تعارض هذا الثقل السياسي مع حجمها كدولة صغيرة، فهي تبدو في موقعها الذي رسمته لنفسها وكأنها تمسك بالعصا الغليظة لحليفتها الاميركية تشير بها نحو الذين انتقدوا موقفها قبل واثناء الحرب.
وربما سيكون الأمين العام للجامعة العربية أول الضحايا، ما قد يشجع على السير في تنفيذ مشروع انهاء وجود الجامعة ليس باعتبارها تجمعا اقليميا سياسيا فقط، وانما باعتبارها فكرة قومية لم تعد تتوافق وخريطة المنطقة العربية ما بعد «اعلان النصر» في العراق، والتنفيذ النهائي لخريطة الطريق الهادفة الى فرض السلام الاسرائيلي وقيام السوق المشتركة للدول الشرق أوسطية التي نادى بها شمعون بيريز.
ولم تكن الكويت هي وحدها التي وقفت مع اميركا في حربها على العراق، بل تسابقت في ذلك سرا وعلنا بعض الانظمة العربية الاخرى. ومع ذلك لن تحصل هذه الانظمة على الدرجة نفسها من الرضا الاميركي ثمنا لتحالفها الاعتذاري الخجول، غير الاحتفاط بما كانوا قد تكرموا عليها به في مقابل تنازلات سابقة. ويبدو ان الكويت والدول الخليجية التي قدمت التسهيلات العسكرية هي التي سيتم منحها الفوز بجزء صغير من الكعكة العراقية ولكن من غير السماح لها ولا لغيرها في المنطقة بلعب أي دور في تشكيل عراق ما بعد الحرب.
مع ذلك لن تغير الولايات المتحدة من استراتيجيتها البعيدة المدى للمنطقة العربية. وهي قد بدأت فعلا في تنفيذ مرحلتها التالية بإطلاق التهديدات ضد جيران العراق تحت دعاوى ومزاعم مفبركة، قبل البدء في حروب صغيرة وحاسمة وسريعة ضد ما اسمته بـ «المنظمات الارهابية» والدول الحاضنة لها، حتى الوصول الى السيطرة الكاملة على المنطقة، وترويج نوع من الديمقراطية يخدم مصالحها بما فيها فرص تسوية مهينة ونهائية مع الفلسطينيين في اطار «اوسلو» جديدة ستقود اليها «خريطة الطريق»، واخيرا فرض السلام الاسرائيلي على كل العرب لتقوم بعده «منظومات دول الشرق الاوسط» التي ستعلب فيها «اسرائيل» الدور القيادي.
وبعد ان دخلت الأمة بفضل البعض الى هذه الحقبة المظلمة من التاريخ، ومن أجل واجب الدفاع عن بقائها أمام هذه الهجمة الاستعمارية الجديدة، هل تأخذ الانظمة العربية زمام المبادرة لوضع «خريطة طريق عربية مصيرية» من أجل تحقيق المصالحة الشاملة مع شعوبها نحو مقاومة المستعمر وترسيخ ثقافة الديمقراطية، وحقوق الانسان والتنمية والحداثة؟
العدد 237 - الأربعاء 30 أبريل 2003م الموافق 27 صفر 1424هـ