العدد 237 - الأربعاء 30 أبريل 2003م الموافق 27 صفر 1424هـ

السير مع المجنون

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أكثر من سجال اوروبي يدور الآن بشأن الكثير من القضايا التي تقرر مصير القارة. هناك نقاش على مسألة الجهة المخولة بأمن الاتحاد الاوروبي، ونقاش آخر على موضوع تعدد الاقطاب، وآخر عن معنى اندفاع الولايات المتحدة نحو الهيمنة الدولية.

النقاط الثلاث مترابطة. مسألة أمن القارة تطرح مصير الحلف الاطلسي (الناتو) وفائدة هذه الصيغة الموروثة عن فترة «الحرب الباردة». وموضوع تعدد الاقطاب، يطرح على طاولة البحث صيغة العلاقة بين دول الاتحاد والولايات المتحدة حاضرا ومستقبلا. وأخيرا يأتي الهاجس الاوروبي ومخاوفه من السلوك الاميركي المتطرف واندفاعه الجنوني نحو العالم وتحديدا الخليج و«الشرق الاوسط» وعدم احترامه لمصالح اوروبا وموقعها ودورها الدولي في الأمم المتحدة أو على المستويات المختلفة من مؤسسات وشركات.

المشكلة في السجال الدائر ان الحوار حتى الآن من طرف واحد هو اوروبا بينما الولايات المتحدة تعتبر نفسها غير معنية لا بالهواجس ولا بالمخاوف ولا بالمصالح الدولية وتوازناتها. فالمجموعة الشريرة المسيطرة على «البنتاغون» ترى ان الولايات المتحدة خارج النقاش وفوقه وهي الجهة الوحيدة المخولة تقرير مصير اوروبا والعالم والاعتراض على هذا «الدور المختار» هو مخالفة لمشيئة واشنطن. فاوروبا برأي هذه الكتلة المجنونة لاحق لها بالاعتراض أو المخالفة أو المحاججة وهي عليها ان تقرر «مع أو ضد» اميركا... وبعد القرار يبدأ الكلام عن التفاصيل.

حتى دولة كبرى مثل بريطانيا اخذت تفقد قدرتها على الضغط أو تلطيف التطرف الاميركي وعقلنته ووضعه في اطار من السلوك القانوني الذي يحترم الاعراف والتقاليد ويضبط ايقاع الجنوح نحو الهيمنة في صيغة معقولة تراعي المخاوف والهواجس. حتى بريطانيا لم تعد قادرة على توظيف دورها التقليدي وممارسة نفوذها الخاص في علاقتها المميزة مع الولايات المتحدة. والسبب ليس ضعف بريطانيا وتراجعها عن لعب دورها التقليدي بل بسبب «جنون العظمة» الذي ضرب الولايات المتحدة وتطرف قادتها الذي وصل إلى درجة عليا من «العُظام» الذي من الصعب التكيف معه أو فهم لغته التي ذهبت بعيدا عن تقاليد الدبلوماسية ومنطلق العقل والتوازن.

بريطانيا هذه أصبحت في موقف حرج فهي تدرك ان حليفها التقليدي أصيب بمس من الجنون وهي الآن لا تستطيع ان تفعل الشيء الكثير للحد من جموحه الايديولوجي وتطرفه السياسي. فالولايات المتحدة بلغت طور الاستبداد الدولي في رؤيتها للعالم والآخر، حتى انها باتت في وضع لا يسمح لها إلا برؤية نفسها. اميركا سجينة نفسها حبيسة غرفة المرايا ترى نفسها من كل الجهات والزوايا ولا ترى غير نفسها.

هذا المرض النفسي لا تستطيع بريطانيا معالجته مهما بذلت من جهود لذلك قررت السير مع المجنون حتى يهدأ قليلا فتجد فرصة مناسبة للحد من غلوائه وشطحاته. اميركا أصيبت بمس من الجنون نستطيع الاطلاع على بعض عوارضه في حال قرأنا بعض فقرات وكلمات يطلقها احيانا الرئيس الاميركي أو وزير دفاعه أو نائبه او مستشارة الرئيس للشئون الامنية. فمن تلك الكلمات نقرأ السياسة المجنونة حين تصل إلى درجة الغليان (الهذيان).

مشاهد الجنون يمكن استعادتها. فمثلا الرئيس يقف في قاعدة عسكرية محاطا بالجنود وصور الدبابات والصواريخ والطائرات يعلن عن خوف اميركا من العالم. العالم برأيه يخيف اميركا وليست اميركا تخيف العالم. الرئيس خائف من العالم وهو يلقي خطابه المتوتر في قاعدة عسكرية وسط صيحات الثأر والانتقام التي يطلقها جنود القاعدة ضد آت مجهول لا يعرف من اين يأتي وكيف يأتي وماذا يريد وما لا يريد.

الرئيس يقول لهؤلاء الجنود: اخطأنا. كنا نظن ان المحيطات تحمي اميركا من الاعداء. الآن تعلمنا الدرس بعد ضربة 11 سبتمبر/ ايلول.المحيطات لم تعد تحمي اميركا ولم تعد تفصلنا عن الاعداء وهجماتهم. هناك خطر داهم ودائم. هكذا قال بوش لجنود القاعدة الاميركية وعلينا ان نكون على اهبة الاستعداد الدائم للمواجهة والرد وكذلك لتوجيه ضربات استباقية قبل ان تأتي علينا موجة جديدة من وراء المحيطات.

هذه اللغة المرعبة كيف يمكن ان تتعاطى معها دولة كبرى مثل بريطانيا؟ وما هو العلاج السياسي - النفسي للقضاء أو لطرد الاشباح التي تعشعش في مخيلة الرئيس الاميركي واعوانه؟ من الصعب على دولة مثل بريطانيا ان تتفهم مثل هذه اللغة وتقبل بها ويصعب عليها ايضا في الظروف الحالية مقاومتها أو الوقوف في وجهها كما حاول ويحاول رؤساء دول فرنسا والمانيا وروسيا وحتى بعض الجهات والاتجاهات الدولية العاقلة. لذلك قررت بريطانيا السكوت احيانا والتجاوب الموضعي احيانا اخرى لتجنب شر هذه الحفنة المجنونة القابضة على قرار إدارة البيت الابيض.

وعلى هذا نستطيع ان نفهم الرد الدبلوماسي اللطيف والغامض الذي صدر عن رئيس الحكومة البريطاني طوني بلير لرفض مطالبة الرئيس الفرنسي جاك شيراك بنظام دولي متعدد الاقطاب أو لإنشاء مظلة امنية اوروبية مستقلة عن الحلف الاطلسي ونزوع واشنطن نحو السيطرة الشاملة والكلية على العالم.

رد بلير يجمع الوضوح بالغموض. الواضح انه لا يحبذ دعوات ومطالبات الرئيس الفرنسي. الغامض هو آراء شيراك تثير غضب اميركا وتزيد من تطرفها وجنونها. السير مع المجنون ومسايرته، برأي بلير الغامض، افضل من تحديه ومواجهته وإثارته.

هناك اكثر من سجال في اوروبا يتعلق بقضايا الأمن والاستقلال والحرية وحق القارة في تقرير مصيرها... إلا ان النقاش حتى الآن لم يصل إلى الاجابة عن سؤال: كيف تحقق اوروبا حريتها واستقلالها عن هيمنة الولايات المتحدة؟ هذا هو الجنون الآتي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 237 - الأربعاء 30 أبريل 2003م الموافق 27 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً