العدد 237 - الأربعاء 30 أبريل 2003م الموافق 27 صفر 1424هـ

«صدفة»

قصة قصيرة - جعفر الجمري 

تحديث: 12 مايو 2017

منذ أن استجبت للمثول أمام لجنة التحقيق في «ظاهرة الهجرة» وأنا أتعرض لمضايقات أقلها: تلغيم الأبنية الآيلة إلى السقوط... تلك التي دائما ما تكون في طريق عودتي وذهابي إلى «دار لرعاية المجاذيب» . ذات يوم وبعد أن أنهيت زيارتي لصديق طاعن الإقامة في الدار... لاحظت خلو الشارع من المارة... الأمر الذي أثار حفيظتي أكثر من أي وقت مضى. فبعد أن اجتزت مجمعين... كان الثالث يتهاوى أمامي كبعير تم عقره... لذت بالغبار المنبعث من الخسف... اتكأت على صدر سيدة في الخريف من العمر... وفي موقف عفوي لم تتردد في معانقتي... وكلما امتدت سحابة الغبار المنبعث من المبنى المعقور وهبت نفسها حق اكتشاف جسدي... كانت متحشفة كخطط الإعمار وهامش الحرية في معرض للكتاب... كندوات الإستثمار واعلانات سجائر المارلبورو في نشرة تابعة لإحدى الجماعات الأصولية... لم أخجل لذعري من ذلك الموقف... أطلقت ساقي للغبار الذي ما زال ينبعث من ذلك الخسف!

لماذا تلح علي «صدفة»؟... مازالت أخاديد جسدي التي حفرتها بأظافرها الأليفة شاخصة كلما نشج مزمار الوحشة... كلما لفظتني الأقاليم... كلما اقمت في الأماسي الخاوية من اللذة وطهر الأصدقاء... لماذا تلح علي «صدفة»؟ كلما تذكرت «نادرة»... عضو لجنة «الهجرة»... بوجهها المشطور وهيئتها الملطخة بتاريخ القرابين وفرائس ما بعد الفجر!.

مازلت أتذكر دم «صدفة» وهو يسيح من جدران خربة في شارع «ابن عباد»... كنت يومها أنهيت زيارة صديقي «الراوي»... المقيم الطاعن في الدار الطاعنة... كنت شارد الذهن والملامح... لم أتكلم يومها كثيرا... كنت مطرقا طوال الوقت... وهذا ما دفعه لاستئناف قراءته كتابا عن «الملاريا في غابات الأمازون»... مازلت أتذكر انحناءتها الشامخة أمام مئذنة توشحت قمتها بأسراب حمام أبيض... وبعد مئات الأمتار لم تتردد في الإنحناء ثانية أمام برج كنيسة!

- ما الذي تنشده من هذا العالم أيها الذاهب للدسائس في عرينها... هادئا كلما غشت العالم جحافل من البراكين... كلما انتحرت النيازك على هذا التراب الأبدي؟

- أريدك أنت... يا شهاب الروح... أنا تربتك الأبدية!

ذات مساء أخذت مخفورا الى «اللجنة» ذاتها... وحين ولجت الباب المؤدي اليها فوجئت بخمسة من الشواذ وسيدة - كما يبدو - تضج بالفحولة... الغرفة خالية من الأثاث الا من كرسي يتوسطها وبقوائم ثلاث... بصاق وبقع دم متناثر... عهد الى رجلين في زاوية الغرفة بطرحي أرضا ليستريح الكرسي وقوائمه الثلاث على جسدي... راحت السيدة - كما يبدو - تدور بخطوات وئيدة حول جسدي وكلتا يديها متشابكتان وراء ظهرها... حملقت في حذائها الرخيص... كانت هي الأخرى تحملق في وكأنها ألفت ملامحي... جسدي المنذور للطعنات... جسدي الذي اصبح مختبرا لكل ذي عاهة أو عقدة... لكل الكائنات التي روضت بعد طوافها على جسدي.

في هذا المكان... حين ترتكب الصمود وتكابر في إعلان ألمك وصراخك... يكون ذلك بمثابة دعوة مفتوحة إلى الإمعان في الممارسة... يكون مدعاة لفيض من المحاولة لن تتمكن من تخيلها لأنك ستكون مشغولا بالمساحات التي ستنطفئ رويدا رويدا في جسدك.

أحد الشواذ الخمسة كان يتلمظ كأنه أمام وجبة فاخرة بعد زمن من الفاقة... كان لا يتردد في دلع لسانه بشكل بطيء... في الوقت الذي ترمقني فيه عيناه ذهابا في امتداد الجسد المنذور للحفلات الداعرة... دون أن يكون له حق ارتيادها أو الخروج منها كما ينبغي!

يضغط الحذاء / السيدة... على موضع أنجبت عبره طفلين قبل عشرين عاما لم أرهما بعد!

لماذا تلح علي «صدفة»... كلما تذكرت الحلم الغابر في أن أذهب الى الجامع دون ان يكون الرصيف المؤدي اليه ملغما بالقاذورات وما ينقض الوضوء...؟ كلما تذكرت عروجي عليها بعد الصلوات الوجلة!

- بماذا تحلم ؟

- أحلم بأن تكوني أكثر صدقا في عنفك وقسوتك علي!

- وهل كذبت في ذلك ؟

- لا... لا أبدا... بل هذا ما أحلم به أيضا... أن تكذبي ليتعلم الصدق منك ما يحميه من ليل الزور!

ينتصب الرجل - كما يبدو - الشاذ... وهو ينضح نتانة من العرق... والسيدة - كما يبدو - تروح وتغدو بحذائها الرخيص... تشعر بلذة غامرة كلما بصقت على جسدي... كلما لعقت بصاقها... لتنهمر رائحة حظائر مهجورة... رائحة كلاب ميتة... وأحشاء حمار نافق... من فمها المزبلة... وبصوتي المتهدج:

- ألا تشعرين برائحة فمك ؟... هل تقبلين ابناءك ان كان لك أبناء ؟... وإن حدث .. فهل مازالوا أحياء ؟... هل تعلمين أن المزبلة ستثور فيما لو عرفت أنني شبهتك بها!

يستشيط حذاؤها غضبا... توسعني ركلا... في مواضع لم يبق فيها موضع للركل... في هذا الحقل السادي... لهذا كثيرا ما أردد بيني وبيني « لو كنت نفاية لقلدوني وساما»!. يتقدم الرجلان القابعان في زاوية الغرفة نحوي في انضباط نهائي... ينتشلاني بعسكرية فظة... يشدان حبلين في ساقيا... وحين ينتهيان يطرحاني أرضا... يتوزع الشواذ الخمسة... يمسك خمسة منهم طرفا... والطرف الآخر يتعهد به اثنان منهم... يسحبون طرفي الحبلين بقوة غير معهودة في أمثالهم... اشعر بانشطار شبيه بانشطار «وليام والاس» في رائعة «القلب الشجاع»... أمام قصر الملك المستبد... حين تولى حصانان تلك المهمة!

لماذا تلح علي «صدفة» وأنا في هذا البرزخ الدموي وطقوس البتر ؟... لماذا كلما سطا العنف على انسانيتي وأوغل الآخرون في بهيميتهم تحضر «صدفة»؟... مازلت أتذكر صوتها الطالع من ندى المروج وذهب المواعيد.

- هل تعدني بأن نغادر هذا العالم معا؟

- ومن قال إننا سنغادره؟

- يا جنة الروح... لابد من ذلك... على الأقل لن تجاور هنالك العسكر!. والمجمعات الآيلة إلى السقوط... لن ترى « لجنة الهجرة» لن ترى دور المجاذيب... ولن تغرق الأحياء في طوفان مراراتك بعد كل زيارة... أما صديقك « الراوي» فسيهذي بشكل أكثر طهرا وسيقرأ طقوسا اخرى بدل أعوام من قراءة كتب لا تختلف كثيرا عن محارم دورات المياه!.

أفيق مما يشبه الحلم على قبضات الرجلين وهما يهمان بفك الحبلين المشدودين الى ساقيا... ينتشلاني بعسكرية فظة... يساعداني على الوقوف بثبات... كان رأسي في غمرة سكرات لم أعهدها من قبل... مجموعة من مشاهد خاطفة حضرتني في تلك اللحظة... «مظاهرات الطلبة في الحرم الجامعي»... «حريق أودى بعائلة من ثمانية أشخاص كانت تحتفل بأول وجبة كباب في حياتها»... «طفل تدوسه سيارة دبلوماسي... وهو يثب هنا وهناك يبيع عقودا من الورد البلدي في حي يقال انه موبوء بالثراء والعربدة»... «جندي يقرأ بإعجاب سري شعارا سياسيا يحتل حائطا»... «شاحنات اللاجئين هربا الى موت أرحم»... «أمي بشالها الأبيض تحصي السنوات البائسة بخصلات شعرها الشبيه بشمس آب»... لا ارى في الغرفة اياها سوى ما يشبه التوابيت المنتصبة... سبعة توابيت فارغة وهي مستندة الى جدار من الفولاذ... لم أعد أتذكر تفاصيل حضوري الى هذه الغرفة... لا أذكر من انا... ما أذكره أن «صدفة» هي الطفولة الحقة وسط شراسة هذا العالم... وسط مستوطنات من العنف المطلق... لوثت وتلوث كل بهاء في هذا العالم... صحوت فجأة على قبضة الرجلين... يبدو انني أرى بوضوح الآن... لأنني لا أرى شيئا على الإطلاق!... أقسم بـ «صدفة» انني لم أكن حاد البصر مثلما يحدث الآن...

- ما الذي كنت تهمس به في صلاتك... مساء يوم الاثنين... الخامسة والنصف... الرابع من آب في الجامع المحاذي لمحل الأحذية وأفلام الأكشن ؟

- ها أنت تختصر الإجابة.

- وأية إجابة؟

- «ما الذي كنت تهمس به في صلاتك»... ذلك يعني أنني كنت أصلي.

- ولمن تصلي؟

- لله الذي جعل «صدفة» وعدا أبيض كثلج الجبال... وجعلكم محطا للكوابيس وأقاليم البشاعة والقبح!

يلكمني أحدهم... ينبعث من فمي حليب الحياة... اشعر بشيء صلب يتهاوى في فمي... ألفظه... (سن معفر بحليب الحياة)!

- ضبطتك عناصرنا وأنت تهاجر في بيتك... سريرك... قبلت أطفالك!

- لا بيت لي... لا سرير لي... لا قبلات لي... لي طفلان لم أرهما منذ عشرين عاما!

- إذا أمعنت في هذيانك هذا ستجد نفسك مصلوبا على مئذنة... أو ربما برج إذاعة!

- وماذا تسمي ما يحدث في هذا المبغى؟

يتكالب ستة منهم على ما يشبه الجسد خسفا ونكالا... سابعهم يحضر حقنة (السيانيد)... يقترب (رويدا رويدا)... ليضج جسدي (وريدا وريدا)!

لماذا تلح علي «صدفة» في هذا الوقت الذي صرت فيه «درة الطرائد» ؟... يطفح فمي بالزبد وهيجان الكيمياء... يتزلزل ما يشبه الجسد... أرى بوضوح أكثر من أي وقت مضى... لأنني لا ارى غير «صدفة»!... اقسم بها أنني لم أكن حاد البصر مثلما أنا الآن!.

- لماذا سمتك أمك «صدفة»؟

- لأنها لم تشعر بحملها... والمدهش في الأمر أنهم أخبروها بولادتها لي!

... دعينا نقيم وليمة لهجرتنا فينا... دعينا ننتصب في موتنا بشكل !





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً