حين اقتحمت دبابات الاجتياح ساحة الفردوس توجهت الى الصنم المنتصب في وسطها وخلعته... سقط الصنم وبقي الحذاء ثابتا في مكانه. المشهد لابد انه تكرر في اكثر من مدينة وبلدة وساحة في مختلف انحاء العراق. الصنم ينخلع ويبقى الحذاء في مكانه.
صمود احذية الاصنام قد تكون له دلالة سياسية على فترة مضت ومرحلة آتية. لعله يؤشر على ان النظام المقبل لن يختلف كثيرا عن السابق. الوجوه تتغير والحذاء لا يتغير. والتغيير هو مجرد استبدال وليس تعديلا في منهج العلاقات والجوهر السياسي للنظام الموعود الذي قال رئيس الولايات المتحدة انه سيكون بمثابة النموذج الذي يحتذى في المنطقة.
حتى الآن تبدو الامور متشابهة لا جديد فيها سوى استمرار لعبة اسقاط الاصنام وابقاء الاحذية في مكانها. فالاحتلال حتى الآن لم يقدم الجديد المختلف عن السابق سوى ترك الناس يتظاهرون احتجاجا على الغزاة وفراغ السلطة وتأخر وصول الامدادات والمساعدات من اغذية وادوية. المستشفيات تعاني من نقص حاد في الادوات والامصال والمعدات والاوكسجين والبنج. المدارس مغلقة كذلك الجامعات. الامن مفقود والسرقات مستمرة. الفوضى عامة لا يعرف الناس اين يذهبون وماذا يطلبون ومن يطالبون. الاحتلال هو الاحتلال. والغزاة لا همّ لهم سوى ترتيب سلطة موالية لا تفكر ولا تخطط بل تنفذ الاوامر التي يطلقها الجنرال المتقاعد. هناك ما يشبه «الصدامية من دون صدام» او على الاقل تدل المؤشرات على ان الولايات المتحدة تريد اعادة انتاج «الصدامية» بوجوه مختلفة. والفارق بين «الصداميتين» ان الاولى وحيدة تعتمد نظرية الصنم الواحد، والثانية متعددة تقوم على تعدد الاصنام. والاصنام كثيرة إلا ان الحذاء هو نفسه يتكرر بين ساحة واخرى ومدينة واخرى. حذاء واحد لأصنام متعددة استوردتها واشنطن معها من مختبرات «البنتاغون» وتحاول تعيينها باساليب مختلفة بعيدا عن رقابة الناس وحرية اختيارهم.
الانتخابات تبدو مؤجلة، و«غربلة» الوجوه والرجال والقادة والشخصيات جارية على «قدم وحذاء» للابقاء على الادوات الطيعة التي لا صدقية لها ولا صلة تربطها بالجماعات الاهلية. فالحكومة كما تراها واشنطن مركبة من عناصر مختلفة تنتمي نظريا إلى جماعات المجتمع الاهلي الا انها لا صلة روحية لها بتلك الجماعات التي يقال انها تنطق بأسمها.
«البنتاغون» تريد قوى تمثيلية غير منتخبة تعكس فسيفساء المجتمع، ولا تتمتع بأية صفة اختيارية، لتشكيل حكومة جديدة تشرف عليها قوات الاحتلال وتصدر اليها الاوامر والحكومة تنفذ من دون اعتراض. ومن يعترض يخرج من السلطة او لا حظ له بحضور الاجتماعات التي قيل انها تناقش او تبحث مستقبل العراق.
والسؤال: ما الجديد في العراق اذا سقطت الاصنام واستمرت الاحذية ثابتة في مكانها؟ وكيف يمكن تصور مستقبل العراق حين تستمر قوات الاحتلال في استخدام الاحذية نفسها والاكتفاء بتغيير الوجوه والاصنام واعادة تركيبها في هذا الحذاء او ذاك؟ وكيف يمكن للشعب العراقي ان يميز بين رحيل صدام وبقاء «الصدامية». والصدامية في معناها الصنمي تعني تجفيف ينابيع السياسة في المجتمع وتحويل الناس إلى كمية من البشر لا قيمة لها حين يبدأ الكلام عن تداول السلطة. وحين تصادر سلطات الاحتلال حق الناس في الاختيار وتفرض عليهم حكومة تمثيلية لا اختيارية يكون العراق الجديد قد بدأ من حيث انتهى العراق القديم... اي مصادرة روح الشعب وحقه في اختيار حكومته التمثيلية.
الولايات المتحدة تقول انها تريد حكومة موسعة تمثل كل فئات الشعب ومناطقه وطوائفه ومذاهبه ردا على حكومة صدام التي اقتصرت قاعدتها الاجتماعية على فئة ضيقة ومحدودة تناسب حجم الصنم في ساحة الفردوس. إلا ان الولايات المتحدة تردف قولها الاول بقول ثان حين تصر على الحكومة الموسعة وتريد تعيينها باشرافها المباشر وتمنع الناس من حق انتخابها وحرية اختيارها. فالولايات المتحدة تريد حكومة تمثيلية موسعة ولا تريد الناس ان يختاروا اعضاء هذه الحكومة. وهذا هو جوهر التعارض الجديد الذي يضاف الى التعارضات الاصلية وهي رفض الحرب اولا ورفض الاحتلال ثانيا ورفض التطبيع ثالثا.
مشكلة واشنطن الآن هي مع المؤيدين للحرب والاحتلال والتطبيع وهي مشكلة جديدة تضاف إلى المشكلات مع المعارضين اصلا للحرب والاحتلال والتطبيع. وهذا يعني ان مستقبل العراق خرج من عهدة اهله وبات عرضة لمزاج جنرال يبحث عن اصنام تناسب احذية صدام الموزعة في كل الامكنة.
الحكومة الائتلافية التي تريدها واشنطن ليست كافية للرد على الحكومة العشائرية (الاسرية) التي كان يقودها صدام حسين. فاساس المشكلة كان في مصادرة السياسة وتجفيف ينابيع حق الاختيار والتداول في اطار دولة دستورية. والدستور في هذه اللحظة الزمنية أهم من الديمقراطية فهو يأتي في طليعة الاهتمامات وبعده تأتي ادوات ممارسة السلطة ودور الديمقراطية في تنظيم العملية التداولية واحترام الاكثرية للاقلية وقبول الاقلية بحكم الاكثرية. فالعراق يحتاج الى تثبيت دولة دستورية تحترم كل الفئات والمناطق قانونها وتقبل به في اطار سلطة تشريعية منتخبة هي التي تختار حكومتها وتعينها.
المشكلة اذا ليست مع الاصنام التي خلعت بل مع المفاهيم التي تريد واشنطن اعادة انتاجها وتركيبها مجددا في «أحذية صدام» المنتشرة في مختلف مناطق العراق وبقاعه. صدام ذهب وبقيت الصدامية وهذه مشكلة جديدة للشعب العراقي المظلوم والمسكين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 236 - الثلثاء 29 أبريل 2003م الموافق 26 صفر 1424هـ