صدح علي بن أبي طالب (رض) وقلبه يعتصر ألما من تقاعس الناس عن الانصياع للحق والاستماع له، بهذه المقولة العميقة المضامين التي تعبر عن وجهي الحياة التي يعيشها الانسان. وجه للحياة الانسانية المعبرة عن إرادة العقل والروح الحرة الأبية المتحررة من اغلال العبودية والتبعية كافة إلا لخالقها وبارئها، ووجه الحياة الحيوانية المتمظهرة في عبودية الشهوة وطغيان الغريزة ورزوح العقل والروح والإرادة لهما.
هكذا يتجلى وجها الحياة، وجه الخلود والبقاء الذي تعبر عنه إرادة الانسان الحر الأبي الذي يحيل الموت بارادته وإيمانه حيات كما يعبر عن ذلك قوله جل وعلى:
«ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون». (آل عمران، 169)
ووجه الخنوع والذل والهوان الذي مهما طال به الأمد من الحياة الحيوانية فهو لا يعد إلا ميتا ممحوا من سجل الخلود ومادة لمزابل التاريخ.
«أفمن يَّمشي مكبّا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم». (الملك، 22) هكذا انعكست صورتا الحياة في مرآة الحوادث المصيرية الأخيرة التي عاشتها امتنا المظلومة المغلوبة على أمرها في غزو العراق. فهل زعيق المتظاهرين وغضب المعبرين الذي يملأ شوارع الدول العربية والاسلامية والمالئ للفراغ من البرامج التلفزيونية الفضائية يمثل عن جل ما يفترض ان نعبر عنه ونملكه للتعبير عن ارادتنا لنحيا قاهرين. وهل يتمثل كسر واقع الموت الذي لم تولده إلا عوامل القهر والتراجع والتخلف والتبعية إلا في الذهاب زرافات وافرادا إلى سوح القتال تحت شعار «الجهاد» الذي اصبح ألعوبة الطغاة كلما ضاقت بهم الدنيا وأزفت ساعتهم؟
لماذا لا نواجه التحديات إلا بالانفعال وردة الفعل لنكون مادة الفضائيات العالمية وأبطالها لا محركي الحدث من وراء كواليسه.
ما خيارات الفعل التي يملكها الانسان المسلم ليكون مصداقا لحياة القاهرين وباعثا لطريق الماضين المؤسسين. نظرة متفحصة للأدوات التي وظفها الغازي لأرض الرافدين والذي يلوح بها لتحقيق أهدافه المستقبلية نجد للعيان لا يظهر إلا امران بهما استفحل أمره واستشرت قوته :
1- النظام المدني الذي اقام عليه بنيانه السياسي والاقتصادي والعسكري.
2- النظام العلمي والتعليمي.
لا أريد ان اطيل الحديث عن الأمر الأول فقد طالت الأقلام أطرافه ونالت من أعماقه بحثا وتنقيبا سواء في وصف مؤسساته المدنية أو مراكزه الاقتصادية أو بنيته العسكرية. أو في شكل التفاعل والتناغم بينها. ولكن ما نراه نزاعا للاستئثار بالبحث والتقصي هو سر تفوق نظامه العلمي البحثي وصلابة اركان سياسته ومؤسساته التعليمية. ولكن من العبث ان ننظر لهذا الأمر من دون محاولة تأكيد عمق الصلة وحيوية الارتباط بين سر نجاح بنيانه العلمي والتعليمي وتفوق مؤسساته المدنية المختلفة. ان حلم الغرب في تسخير تفوقه في بناء مجتمع مدني راق لبناء حضارة مدنية مهيمنة لا يمكن ان يكون واقعا اذا كانت دوافعه وطموحه في بناء مؤسسة تعليمية وعلمية بحثية تعاني من الضمور والتراخي.
ان الصلة بين مؤسساته السياسية والعسكرية والاقتصادية والمؤسسات العلمية البحثية من الجامعات والمراكز المختلفة كصلة العقل بالقلب. ان وعيه بهذه الصلة الاستراتيجية وما لمسه من أثر ما يغدق عليها من المال والاهتمام والحرية اكد بشكل لا يقبل الشك ولايرتاب له اليقين ان سر قوته ينبع من ثراء مؤسساته البحثية والعلمية. وقوة الأخيرة من قابلية نظامه التعليمي على مدها وتغذيتها بالكفاءات والقدرات. ان ما جادت به مؤسسات البحث العلمي الغربي من اكتشافات ونتاج تقني وعلمي على مؤسساته العسكرية بالدرجة الأولى وما انعكس على مراكزه الاستشرافية والاستراتيجية لا يعود بالدرجة الأولى الى ما احتوته مختبراته العملاقة ومراكزه البحثية من تجهيزات وأدوات وخبرات عقلية فذة بل ان العامل الأول والأساس يعود الى تأثير أجواء الحرية السياسية والعقائدية والعدالة الاجتماعية وتفعيل روح المواطنة والتطلع وزرع روح الطموح والثقة في البناء والتأسيس والابداع والتطوير. ويتضح جليا من لمحة سريعة على أسماء اي مركز علمي متقدم في الولايات المتحدة ان نجد ان قياداته ومديريه يتشكلون من شتى الأطياف البشري والعقدي جمعهم حب العلم والبحث والاكتشاف وأطلق عقال إبداعهم وابتكارهم حرية الرأي والدين والانتماء والجنس. وما اختيار احد الباحثين من الأصل العربي من قبل ادارة الرئيس كلينتون لرئاسة مركز الصحة الوطني، اكبر مركز بحثي طبي على مستوى العالم، إلا دليل على ان ما يهم هو كم تستطيع ان تقدم وتبدع.
ان الآلة العسكرية التي طالت بها الولايات المتحدة وبريطانيا غاياتهما السياسية هي نتاج القناعة الاستراتيجية التي بها أسس الغرب وأصّل أهدافه عليها وهي ان لا سطوة ولا قوة من دون مؤسسة علمية بحثية عريضة القاعدة متشعبة الاهتمامات متنفذة القدرات لتمد وتمون وتغذي شريان البنيان السياسي والعسكري وتضمن تحديثه وتطويره وتفوقه.
و اما الأزمة التي يعاني منها العالم الاسلامي فهي اختزاله لأسباب وعوامل تخلفه وتراجعه وحصرها وارجاعها إلى تخلف «النظام السياسي» والحل الاوحد الذي يقدمه دائما هو كيل السباب والزعيق والتظاهر والتعبير العاطفي الانفعالي. انها مظاهر تخلف وقهر لا مظاهر تقدم وبناء، كما يحلل ذلك مصطفى حجازي في مؤلفه «التخلف الاجتماعي».
«إن طغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوص على مستوى العقلانية ظاهرة مألوفة في الأزمات ولكنها عند الانسان المتخلف تكاد تكون الأسلوب الأساسي في الوجود لأنه بالتحديد يعاني من أزمات مزمنة تتخذ طابع المأزق المعيشي الذي لا يرى لنفسه خلاصا منه... ان طغيان الانفعالات بالغائة لوظيفة النقد العقلي يفتح الباب واسعا امام بروز الميول الاختزالية».
ان نظرة متمعنة إلى ما قدمته المؤسسات المدنية الاسلامية - التي تتبجح بادراكها هموم المسلم وقضاياه واحتياجاته الراهنة - من اسهامات في تقويم البنية العلمية وإرساء المؤسسات البحثية كي يستطيع بها المجتمع المسلم تعديل وتقويم شيء من هزاله الحضاري المدني جد هزيل ومتواضع. ان الوحيد الذي نرى هذه المؤسسات تحرص على عرضه وتقديمه هو الخطاب الديني المعتل والمشروعات «الانسانية» المغرضة التي تكرس العنصرية والطائفية والحزبية.
ان القهر الذي يقف وراء موت مجتمعنا الاسلامي لا يعالج من خلال تظاهر ولا لافتات ولا حرق الدمى وان كان له جانب من التنفيس للانسان المكبوت والمحبط، بل العلاج الناجع والشفاء المضمون ينبعان من إعادة النظر في توجيه همنا وتعديل نظراتنا من العاطفة والانفعال الى الفعل والتدبير والتأسيس والتركيز. وأود ان اسجل موقف تقدير واعزاز لما تفضل به الكاتب السعودي (قينان الغامدي) في مقاله الشجاع والمهم في هذه المرحلة الحساسة «الثغرات السنة والشيعة قبل ان تتفتح» المنشور في صحيفة «الوطن» السعودية واذ يعد ما جاء به من احد اهم المعاول التي بها تزال جدران العصبية البغيضة. فقد أصبح بما لا يختلف عليه رضيعان ان التقدم والبناء والصحوة لا تلتقي والطائفية والعنصرية والحزبية والاستحواذية التي تمثل النسيج التأسيسي لفكرنا الاسلامي الراهن. ان طلب الحرية من الحاكم والدعوة إلى دمقرطة الحياة السياسية لابد ان تسبقهما قدرة الانسان على منح الحرية لعقله وفك لجامه كي يقبل الآخر ويستوعبه.
ان سر تخلفنا والعروة التي نوثق بها علة تراجعنا لا تحل وتعالج في بناء جامعات او مراكز بحثية او تخريج عشرات الدفعات من الخريجين والخريجات من الجامعيين بمعزل عن تأسيس أركانها وبنيانها على التسامح والحرية الفكرية. والأمل المنبلج من ظلمة القهر يحدونا في وضع يدنا على التأسيس الصحيح للبنية العلمية والتعليمية وخصوصا في بعض ما أشار اليه من نماذج مشرقة سليمان العسكري في افتتاحيته لمجلة «العربي» عدد ذو الحجة 1423 بعنوان «ضوء في نفق التعليم العربي».
الخلاص من موت المقهورين لحياة القاهرين يكمن في حرصنا وسعينا إلى بتر صيرورة «استفحال الذات» في عقلنا الباطن. فخلاصنا ينزع من استئصال أمشاج القهر والموت الذي تزخر بها عقولنا وضمائرنا «فالموت في حياتكم مقهورين» باق مزمع لا يغادر مهما ملأنا الدنيا زعيقا وأصممنا آذان الدهر شتما. «و الحياة في موتكم قاهرين» لا تنحصر في سوح الجهاد العسكري بل في الاصرار على تفعيل عقلية الجهاد التأسيسي للبنية العلمية التحتية المتينة لتؤسس على كاهلها أركان مؤسساتنا السياسية والعسكرية والاقتصادية
العدد 235 - الإثنين 28 أبريل 2003م الموافق 25 صفر 1424هـ