سقوط بغداد في 9 من أبريل/ نيسان 2003 على يد القوات الأميركية البريطانية، والنهاية المأسوية لأكثر الأنظمة العربية دموية وتسلطا، ورمزا من رموز الحكومات الأوتوقراطية المركزية الدكتاتورية، جرس إنذار مبكر سيدق في آذان الأنظمة الدكتاتورية الأخرى في المنطقة، حتى يتقبلوا التغيير والتعددية السياسية. العولمة السياسية التي تديرها القوة الأعظم، لن تتركز فقط في إطار تصدير السلع التجارية الغربية أو المنتجات الثقافية الغربية، بل ستتعدى ذلك بكثير لتشمل تغير بلدان المنطقة سياسيا ودينيا، بزرع نموذج سياسي عولمي غربي ليس في العراق فقط، بل وحتى دول الجوار. مكاسب أميركا وبريطانيا في العراق سيسيل لعابها لتحقيق مكاسب سياسية جديدة، بتصدير ثقافتها الغربية كجزء من خطة عالمية، إلى جميع الدول المجاورة للعراق.
مؤتمر دول الجوار الذي عقد في الرياض في الأسبوع الماضي وشاركت فيه السعودية وإيران وتركيا والكويت وسورية، بالإضافة إلى البحرين ومصر، رفض الاحتلال الأجنبي للعراق، وطالب بإنشاء حكومة وطنية عراقية في أسرع وقت ممكن. المؤتمر ناقش هذه المعطيات الجديدة للسياسة الدولية الجديدة القائمة على الاستعمار العولمي الجديد وشن الحروب على البلدان العربية والإسلامية، وضرورة وضع حد لهذه السياسة الأميركية اليمينية، كما ان العدوان الأميركي البريطاني على العراق سيترك أثرا سلبيا على أمن واستقرار أنظمة وحكومات البلدان المجاورة للعراق.
عند استجواب لجنة الشئون الخارجية للكونغرس لوزير الخارجية كولن باول، أعرب بوضوح تام أن هدف أميركا في منطقة الخليج تغيير أنظمة الحكم فيها، وذلك يتطلب تغيير مناهج التعليم التي تولد الكراهية للغرب والصهيونية، حتى لو تطلب هذا التغيير حذف العبارات في الكتب الإسلامية المقدسة التي تنتقد اليهود والمسيحية، وللوصول إلى ذلك الهدف لابد من تغيير الخريطة السياسية للمنطقة خصوصا في السعودية وإيران وسورية، وهي الأهداف التالية للحرب الأميركية على الإرهاب بعد العراق. الدمار والنهب الذي لحق بالمتاحف والجامعات والمستشفيات والمعاهد العلمية في بغداد والموصل والبصرة، كان عملا تخريبيا مقصودا، الهدف منه القضاء على الثقافة والتاريخ العربي والإسلامي التي كانت بغداد حاضرته وعاصمته، وتدمير هيبة بغداد التي كانت رمزا للقوة والعزة والكرامة الحضارية الإسلامية. وتهدف من بين أمور أخرى إلى التغطية على أخطاء مخازي اليهود التاريخية الموثقة في متاحف بغداد وجامعاتها ومراجعها العلمية والتاريخية.
التعاون الحالي لدول الجوار مع القوات الأميركية بالنسبة إلى صقور اليمين المتطرف في أميركا ليس كافيا. معسكر اليمين المتطرف الأميركي الذي يترأسه تشيني ويضم في عضويته رامسفيلد وكوندليزا، رايس وبيرل، يرى أن دول الشرق العربي المعادية لإسرائيل يجب أن تخضع تماما للسياسة الأميركية، وأن تكون تبعا لها، لذلك أراد كل نظام سياسي من دول الجوار المحافظة على نظامه وشكل حكمه من التهديد الأميركي.
وعلى رغم أن تركيا سهلت استخدام قواعدها للقوات الأميركية ومرور طائراتها عبر أجوائها، وقدمت خدمات لوجستية للقوات الأميركية في شمال العراق، إلا أن الخلاف التركي الأميركي بدا واضحا للعيان، وتمثل في عدم ارتياح أميركا من تصويت البرلمان التركي على عدم السماح بانتشار القوات الأميركية عبر تركيا لغزو العراق، على رغم من موافقة الكونغرس الأميركي على تقديم الدعم المالي والعسكري لتركيا، مما أخر وأعاق قليلا الخطط الأميركية لغزو العراق. من ناحية أخرى فإن معارضة أميركا لدخول القوات الكردية على حدود العراق، زاد من القلق التركي من الوجود الأميركي المجاور لأراضيها وأهدافه، خوفا من تأييد أميركا لقيام دولة كردية في شمال العراق وعلى حدود الأراضي التركية.
السعودية من أقدم حلفاء أميركا في المنطقة، وبلغ التحالف بين الدولتين ذروته أثناء حرب الخليج الثانية بعد غزو العراق للكويت. اتفق البلدان على إخراج القوات العراقية من الكويت، لما تشكله من تهديد للأمن السعودي، عن طريق العمل المشترك على بناء تحالف دولي واسع النطاق، ومتشعب الاتجاهات والأطراف ضم 33 دولة أعلنت الحرب على العراق ونظام صدام حسين. إلا أن تمسك الحكومة والشعب والسعودي بمعتقداتهم الدينية وتعاليم الإسلام الأصولية، أقلق كثيرا الساسة الأميركان، كما أن الكثير في أميركا يعتقدون أن الإسلام الأصولي الخارج من السعودية هو الذي دفع المتشددين الإسلاميين من أتباع بن لادن ومعظمهم سعوديون، إلى تنفيذ هجوم 11 سبتمبر/ أيلول على مركز التجارة العالمي في نيويورك. إذا التخوف السعودي من التدخل الأميركي يكمن في التهور الأميركي الذي ربما يؤدي إلى تغيير شكل نظام الحكم السعودي، ومناهج التعليم في المدارس والجامعات السعودية، بالإضافة إلى إلغاء تطبيق حذافير الشريعة الإسلامية المعمول بها حاليا في المملكة.
أما بالنسبة إلى سورية فالمسألة تختلف تماما، سورية ليس لها علاقة بحوادث 11 سبتمبر/ أيلول، ولا تنتمي إلى الأيديولوجية الإسلامية الأصولية التي يحمل شعارها بن لادن، لكون النظام السوري نظام علماني يطبق أيديولوجيات حزب البعث السياسية في حكمه لسورية. مشكلة أميركا مع سورية أملاها عليها اللوبي الصهيوني والقوى السياسية الأميركية المؤيدة لإسرائيل. أميركا تتهم سورية بإيواء الإرهاب العالمي، وحيازة أسلحة الدمار الشامل، وبما أن سورية تعتبر المقاومة العربية لإسرائيل إرهابا دوليا سواء كانت من جانب حزب الله اللبناني أو حركة حماس أو الجهاد الإسلامي أو الفصائل الفلسطينية الأخرى المعارضة لياسر عرفات، والتي تتخذ دمشق مقرا لها. وفوق هذا تعرضت دمشق إلى حملة إعلامية وتهديدات متكررة من بوش نفسه، ورامسفيلد وكولن باول الذي هدد بفرض عقوبات على سورية، الإدارة الأميركية اتهمت سورية بأنها تأوي فلول أعضاء القيادة العراقية السابقة في دمشق، وتدعم نظام صدام أثناء الحرب، وأسهمت في تهريب الأسلحة، وإرسال المتطوعين العرب لمقاتلة الأميركان عبر الحدود السورية العراقية. وعلى رغم تأييدها للحرب الأميركية على الإرهاب الدولي، بالتصويت في مجلس الأمن لصالح قرار ضرب أفغانستان، فإن هذه الحقيقة لم تنفِ اتهامات أميركا لسورية بحيازة أسلحة الدمار الشامل. لا شك في أن الهدف منها تغيير النظام البعثي في سورية المعادي لأميركا و«إسرائيل»، وإقامة نظام على النمط الغربي موالٍ لأميركا ومتصالح مع «إسرائيل»، لتمرير الخطط الأميركية لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
من ناحية أخرى فالخلافات الأميركية مع إيران ربما تعود إلى زمن الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، واضمحلال النفوذ الأميركي في إيران، بعد خسارة أميركا لأقوى حليف لها في المنطقة وهو شاه إيران. ومن ناحية أخرى فإن احتجاز حرس الثورة الإيرانية أعضاء السفارة الأميركية كرهائن لمدة طويلة، أهان كثيرا إدارة كارتر، مما أجبرها على محاولة إنقاذ الرهائن الأميركيين، إلا أن تلك المهمة العسكرية فشلت فشلا ذريعا، لهذا فإن أميركا، ومنذ ذلك الوقت تعمل على رد اعتبارها في إيران، وستنتهز أية فرصة مواتية للعمل على تغيير النظام الإسلامي في إيران، لهذا فإنها تقوم ببناء كوادر إيرانية معارضة حول العالم على غرار الكوادر العراقية المعارضة لدخول إيران في أقرب فرصة ممكنة. التخوف الإيراني من الوجود الأميركي في العراق، ورغبتها في استتاب الأوضاع واستقرارها في العراق على رغم حيادها في الحرب الأميركية البريطانية على العراق، تتطلع لليوم الذي ترحل فيه القوات الأميركية الغازية من العراق. الخوف الإيراني من الوجود الأميركي يكمن في التهديد المستمر للأمن الوطني الإيراني. الأميركان ورغبتهم في السيطرة على الثروات النفطية في المنطقة يرغبون في محاصرة نفط إيران أيضا بعد وضع يدهم على نفط العراق، ونفط بلدان آسيا الوسطى، وبعد السيطرة عسكريا على أفغانستان وباكستان أصبح الطريق مهيأ لتأديب إيران المؤيدة لحزب الله اللبناني، كما أن موقف إيران المعارضة لعملية السلام في الشرق الأوسط، وعدم اعترافها بوجود «إسرائيل» يشكل عقبة أمام تحسين العلاقات الأميركية الإيرانية.
من هنا لابد للبلدان المجاورة للعراق أن تجتمع، وتنسق سياستها لمواجهة التهديد الأميركي الواقع على أبواب هذه الدول. البيان الصادر عن الدول المجاورة للعراق عكس بوضوح مخاوفها من الأهداف الأميركية في المنطقة، لهذا فإن من أولوياتها: وتحقيق أكبر قدر من الاستقرار السياسي في العراق، وتحقيق الوحدة بين الفرق الطائفية والعنصرية والسياسية العراقية، وهذا سيخدم أمن وسلامة هذه البلدان، والعمل على إقامة حكومة وطنية عراقية بأسرع وقت ممكن، لتطبيع علاقات دول الجوار مع العراق، ورفض الوجود الأجنبي في العراق سيبعد شبح التدخل الأميركي في شئون بلدان الجوار الداخلية. السؤال المطروح الآن هل تستمر هذه البلدان في التشاور فيما بينها لتنسيق سياستها تجاه الاحتلال الأميركي للعراق؟ وهل تستطيع ممارسة ضغط على الإدارة الأميركية اليمينية للانسحاب من العراق من دون إنشاء قواعد أميركية دائمة في العراق تهدد أمن وسلامة حكومات وشعوب هذه الدول على رغم الشعارات الأميركية التي تدعي بأنها تحرر الشعوب، وتفرض النظام الديمقراطي المتعدد الاتجاهات السياسية
العدد 234 - الأحد 27 أبريل 2003م الموافق 24 صفر 1424هـ