بدأت «المعارضة المستوردة» تشد رحيل العودة إلى بغداد. لقاء بغداد سيكون الموعد الحاسم في سلسلة اجتماعات عقدت على مدار السنوات الأخيرة. كانت هناك مواعيد كثيرة عقدت المعارضة الخارجية فيها مؤتمرات في شمال العراق ولندن وواشنطن وأخيرا في الناصرية ومدريد... والآن في العاصمة.
لقاء بغداد ستكون له نكهة مختلفة. فهو نقطة وسط لمختلف مناطق العراق وأقوامها وطوائفها ومذاهبها وعشائرها. وفي الآن سيكون لقاء مصالح تتقاطع فيه مجموعة خيوط تحت خيمة أميركية ممتدة عمودها مجرد جنرال أميركي متقاعد.
من الآن بدأت الخلافات. فهناك من يرى أن الولايات المتحدة عليها أن تبقى في الظل. وتعطي السلطة لأهل العراق. وبرأي هذه الشريحة من المعارضة أن المجتمع العراقي من الصعب عليه أن يتقبل قيادة أجنبية تحكم البلاد بأدوات محلية... فالأمر برأي هذه الشريحة سينقلب عليها وتتحول إلى واجهة للاحتلال لن تلقى الاحترام والتقدير من الناس.
وهناك من لا مانع لديه أن يكون واجهة لسلطة الاحتلال لأنه أساسا لا يرى أن عنده القدرة على ضبط الوضع الأمني والسيطرة على البلاد من دون مساعدة أمنية وسياسية ومالية مباشرة من الغزاة. وترى هذه الشريحة أن الولايات المتحدة لن تقبل بالانسحاب وتسليم العراق إلى أهله قبل أن تحقق أهدافها الكبرى المحلية والإقليمية ولذلك فإن المعاندة تعني ابقاء البلاد في حال اضطراب لا جدوى منه. فالعراق سقط عسكريا برأي هذه الشريحة ولا جدوى من حمايته سياسيا في ظل تمزق أهلي وفوضى أمنية وضعف عربي وإحجام الدول الكبرى الأخرى عن تقديم بديل متوازن نظرا إلى عدم وجود قوة موازية للحجم الأميركي وما تستطيع واشنطن تقديمه من امكانات ووسائل.
وبين الشريحة الأولى والشريحة الثانية من «المعارضة المستوردة» هناك شريحة ثالثة تقرأ الفترة المقبلة وكأنها مجرد مرحلة انتقالية تقودها حكومة مركبة من فسيفساء المجتمع العراقي باشراف أميركي وتحت رقابة هيئة معينة من الأجهزة الأميركية وعلى رأسها «البنتاغون».
وبرأي الشريحة الثالثة هناك واقع موضوعي يفرض نفسه. فالمعارضة الخارجية حين وافقت على اسقاط النظام السابق من طريق الجيوش الأجنبية مهما كلف الأمر من دمار وخراب وضحايا فانه من الصعب عليها إقناع نفسها وإقناع واشنطن وأخيرا إقناع الشعب العراقي بأنها فعلت ذلك من دون دفع ثمن... والثمن المطلوب دفعه لن يكون أقل من التنازل عن الاستقلال والسيادة إلى فترة طويلة قد تمتد إلى زمن غير منظور.
ترى الشريحة الثالثة أن فترة الوجود الأجنبي في العراق لن تكون قصيرة وستمتد أكثر من سنتين أو ثلاث وبالتالي على المعارضة العراقية التي قبلت بالغالي عليها أن تقبل بالرخيص، وكل الكلام الأميركي عن وجود مؤقت ومرحلي ليس دقيقا إلا إذا تغير الوضع السياسي (الحزب الحاكم) في واشنطن في الانتخابات الرئاسية في العام 2004.
الشريحة الثالثة ترى أن المعارضة عليها أن ترتب وضعها وتتكيف مع الاحتلال الأميركي والقبول بشروطه وعدم الممانعة لعوامل براغماتية وليس لدوافع أيديولوجية ومبدئية. لذلك فإن الشريحة الثالثة تتميز بالواقعية، فهي ليست ضد الاحتلال لأنها هي طلبت منه الاحتلال، وهي ليست معه في المعنى المطلق لأن الأمر سينقلب عليها بعد حين، وهي لا تريد الممانعة الآن لأنها ستدفع الثمن بخروجها من سلطة الدولة (الحكومة المعينة) من دون أن تكسب ثقة الناس لأن لعبتها انكشفت سريعا أمام الرأي العام العراقي.
نحن اذن أمام ثلاث شرائح من «المعارضة المستوردة» البائسة في تصورها السياسي، والبائسة في قدرتها على تمثيل شعبها، والبائسة في إقناع قوات الاحتلال على أن دورها انتهى وعليها مغادرة العراق وترك حكم البلاد لأهل العراق.
هذا الأمر لن يحصل كما يتوهم بعض اتجاهات المعارضة. فأميركا جاءت لتبقى إلى فترة طويلة وأطول من المدة التي حددتها إدارة واشنطن. وستعمل قوات الاحتلال خلال هذه الفترة الممتدة إلى ثلاث سنوات على تحويل وجودها إلى حاجة أمنية لا يمكن الاستغناء عن وظيفتها السياسية في ترتيب العلاقات العراقية - العراقية وتنظيمها تحت المظلة الأميركية. فعدم تفاهم المعارضة وفشلها في التوصل إلى صيغة موحدة لحكم العراق يصبان في مصلحة الوجود الأجنبي لأن محصلة الخلافات هي إبقاء قوات الاحتلال لفترة أطول من الوقت حتى يستقر الوضع الأمني ويستعيد الشعب العراقي «وعيه السياسي» ويكون على أهبة الاستعداد لحكم نفسه بنفسه!... وهذه الفترة ستكون ممتدة إلى أن تنتهي حاجة الولايات المتحدة للعراق. إذن هناك سقف أميركي فوق رؤوس شرائح المعارضة في مختلف ألوانها وأطيافها وقواها وهي لا تستطيع أن تستقل بنفسها وتخرج من تحت المظلة (الخيمة الأميركية) قبل مدة لن تقل عن ثلاث سنوات.
إلى ذلك، وخلال هذه الفترة المنظورة، ستتألف حكومة ائتلافية عراقية برئاسة أميركي (أو إشراف مندوب مكلف من واشنطن) تكون وظيفته إدارة المصالح العراقية باتجاه الولايات المتحدة واعادة ربطها بالسياسة أو الشركات الأميركية العاملة في البلاد والمنطقة والعالم.
الحكومة الائتلافية المؤقتة ستفقد صدقيتها أمام الشعب العراقي، وبسبب ضعف تمثيلها ستكون مضطرة إلى التورط بسلسلة اتفاقات أمنية واقتصادية وعسكرية مع واشنطن. وربما ستضطر إلى الخضوع إلى سلسلة شروط من جملتها فتح السوق العراقية أمام «إسرائيل» وربما الاعتراف بها وتبادل السفراء وفتح مكاتب تجارية وتمثيلية.
الانتخابات العراقية الأولى ستكون بعيدة وهي لن تحصل قبل تعيين الحكومة الائتلافية وقبل أن توافق الأخيرة على صفقة سياسية كبيرة يصبح من الصعب على الحكومة المنتخبة (البرلمان المنتخب) الغاء بنودها التعجيزية وإلا فإن واشنطن ستتدخل مباشرة للدفاع عما تقول عنه مصالحها وحقوقها.
بدأت «المعارضات المستوردة» شد رحيل العودة إلى بغداد... إلا أن ذلك لا يعني أن العراق استعاد عافيته وبات حرا ومستقلا. الحرية والاستقلال مسألة مختلفة... وطويلة المنال على الأقل في الأمد المنظور
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 234 - الأحد 27 أبريل 2003م الموافق 24 صفر 1424هـ