ثلاث جهات مسئولة مهنيا ووطنيا عن تحقيق مستوى عال ومسئول من حرية الرأي والتعبير في البحرين، وهي السلطة التشريعية ممثلة في المجلس الوطني، والسلطة التنفيذية ممثلة في وزارة الإعلام، والصحف اليومية الثلاث الصادرة في البحرين. وتوجد حاجة ماسة إلى تسليط الضوء على ما قامت به هذه الجهات لتأمين هذه الحرية المسئولة، وصوغ واقع جديد بعيد عن قانون أمن الدولة.
قد يكون السجال واضحا هذه الايام بين «الوسط» والسلطة التنفيذية ممثلة في وزارة الاعلام بشأن قانون الصحافة والنشر والمطبوعات الجديد، في ظل غياب الجهات الاخرى عن دائرة الفعل والتأثير.
هذا القانون الجديد على رغم التعديلات التي أجريت عليه، توجد عليه الكثير من الملاحظات الأمنية التي ترجعنا الى عهد قانون أمن الدولة، وربما كان أظرف تعبير عن حال القوانين التي تصدر من السلطة التنفيذية، ما ذكره المحامي عبدالله الشملاوي في تعليق له على حق النائب العام تمديد فترة حبس المتهم على ذمة التحقيق، وعلاقته بقانون أمن الدولة، اذ علق بالقول: «ان قانون أمن الدولة على رغم الغائه وغيابه عن الحياة السياسية، فهو بمثابة (مكعب ماجي) تشم رائحته في كل قانون يصدر» وما أشبه القوانين بقانون أمن الدولة في عهد الاصلاح.
اذا رجعنا الى المجلس الوطني، وأخذنا مجلس النواب تحديدا، بصفته «الشق الأكثر تمثيلا للشعب» لكونه منتخبا، وبعيدا عن الاشكالات التي تؤخذ عليه من قبل المعارضين، ومدى صوابها من خطئها، بعيدا عن كل ذلك يمكننا تسجيل ملاحظتين أساسيتين على ادائه بخصوص هذا القانون:
الأولى: أثار المعارضون ان مجلس النواب على رغم الصوت العالي، والقضايا الكثيرة التي أثارها، فإنه لم يستطع حسم قضية واحدة لصالحه، لاعتبارات عدة ليس مكانها هنا، الا ان الواضح فعلا ان مجلس النواب لا يملك أجندة واضحة ومحددة، ولا أولويات ثابتة لطرح القضايا التي تعرض عليه من قبل الحكومة، والقضايا التي يتبناها بنفسه.
من جهة اخرى، يبدو ان كلام المعارضين يلامس مقتلا في اداء النواب يتعلق بآلية اتخاذ القرار وتعقيدها. فالبرلمان لم يستطع - بحسب المعطيات الميدانية - حسم القضايا التي دخل طرفا فيها لصالحه، وخصوصا اذا ما علمنا انه لم يستخدم إلى الآن «المقترح بقانون» الملزم - اذا حاز الغالبية - كسلاح لامضاء القوانين المهمة، الذي يحتاج إلى آليات معقدة لانقاذه، وهي بدورها (الآليات) تحتاج من سنة الى سنة ونصف السنة - اذا لم تعرقل - بحسب بعض البرلمانيين، ما يجعل البرلمان امام استحقاق وجودي في القضايا الكبرى التي ستعرض عليه، مثل قانون الصحافة والنشر، وقانون التعديلات الدستورية - ان طرح - وخصوصا اذا ما علمنا حجم الاعاقات التي تقوم بها السلطة التنفيذية لمنع صدور قانون الصحافة والمطبوعات والنشر.
الثانية: ان البرلمان ترك قانونا مهما مثل قانون الصحافة والمطبوعات والنشر ليكون سجالا بين «الوسط» والسلطة التنفيذية، ولم يتبنَ خيار عرض «مقترح بقانون» يمثل عمق توجهاته باعتباره جهة حامية - بحسب المنظور - لحرية الرأي والتعبير ومستفيدة منها في الوقت نفسه.
من جهة أخرى فإن البرلمان لم يتبنَ خيار مناقشة هذا القانون، بعد تعرض «الوسط» للمضايقات من وزارة الاعلام، واكتفى بعض اعضائه بالتصريحات الفردية في «الوسط» حالهم في ذلك حال الجمعيات السياسية والشخصيات المستقلة التي لا تملك حق التشريع، فهل البرلمان ظاهرة صوتية كما يصفها المعارضون؟ وكيف يفسح البرلمان المجال للسلطة التنفيذية لأن تكون طرف رهان مع جهة اهلية مستقلة، وهي صحيفة «الوسط» في موضوع يتعلق بحرية التعبير في البلد؟
ألا يمثل التفرج على هذا السجال غير المتكافئ أشبه بالعجز عن تبني هذا الخيار في ظل وصول السجال الى حلقاته الأخيرة؟
أما دور وزارة الاعلام في انفاذ هذا القانون بصفتها ممثلا عن السلطة التنفيذية، فيمكننا ان نقدم ملاحظتين اساسيتين على ادائها، وبعض ايقاعاتها المربكة التي خلقت توجسا لدى الكثير من المراقبين من عودة قانون أمن الدولة بلبوس جديد:
الأولى: ان وزارة الاعلام وغيرها من الوزارات داخل السلطة التنفيذية تعيش تشابك اشكاليات مقصودا، بحيث انك في اي موقع لا تعرف مَنْ غريمك تحديدا، ومَنْ يوجه إليه السؤال عن سوء استخدام السلطة. لا نريد الدخول في جدل بشأن تصريح وزير الاعلام الذي نفى فيه ان تكون لوزارته مسئولية في استدعاء «الوسط» والتحقيق معها، وأرجأ الاستدعاء إلى أمر قضائي، لكننا نطالب كل المسئولين في السلطة التنفيذية بتحديد مسئولياتهم بدقة في كل قضية لها علاقة بالشأن العام، ذلك لوجود سوابق غير بعيدة مثل قضية «اغلاق المواقع الالكترونية» وتضارب تصريحات المسئولين بشأن تحديد الجهة المسئولة عنها، اضافة الى «منع مؤتمر الوفاق الأول» ودخول اكثر من جهة حكومية فيه من دون تحديد المسئولية على جهة بعينها، وأخيرا استدعاء رئيس تحرير «الوسط» وأحد الزملاء للتحقيق معهما بخصوص نشر موضوع «الخلية»، والتضارب الذي حصل في تحديد مسئولية الجهة الحكومية المسئولة عن هذا الفعل. ما يعني ان أي تشابك مستقبلي في مسئوليات السلطة التنفيذية، سيضطر بالمتضررين من سوء استخدام السلطة الى تحميل السلطة التنفيذية بأكملها المسئولية تجاه التصرفات الفردية للمسئولين، اذ ليس من المعقول ان تبقى الجهة الحكومية التي تتصرف بشكل فردي مغيبة على الدوام، لتضيع قضايا وحقوق المواطنين.
الثانية: لا نريد ان نحلم كثيرا، ونطالب بالغاء وزارة الاعلام والاستعاضة عنها بمؤسسات اعلامية مستقلة تتكفل بالدفاع عن مواقفها امام قضاء مستقل، فهو مطلب عصي على التحقيق، لكن غير المقبول ان نكون ابواقا للآخرين، وان نعمل خلاف قناعاتنا، والسؤال: هل ما ينعم به شعب البحرين من حرية مسئولة كثيرة عليه بعد سنوات طويلة من كبت للحريات في ظل قانون أمن الدولة؟ هل وجود صحيفة ذات ايقاع متوازن يضر بالميل الحاصل في اجهزة الحكومة ومؤسساتها؟ هل وجود الرأي والرأي الآخر يضر بسمعة وزارة الاعلام في المحافل الدولية مثلا؟ ام انه يعزز موقعها باعتبارها جهة اعلامية حاضنة لكل اطياف التعبير في المجتمع؟ هل وجود قانون يحمي الصحافي المسئول والملتزم بقول الحقيقة من المساءلة القانونية الجائرة، كثير على بلد لم يخرج بعد من حالات التنفيس في ظل الكثير من الاحباطات؟ أم ان المسئولين يريدون الناس ان يموتوا بغيظهم، وينفسوا عن مشاعرهم بأسلوب آخر؟ هذه اسئلة صادقة ومسئولة، لا تريد التشويش على أحد ولا احراجه، وانما تريد الاجابة والاجابة المسئولة فقط.
وفي كلامنا عن الصحف اليومية الثلاث، يمكن القول: ان «الوسط» دفعت باستحقاق ثمن دفاعها عن قانون المطبوعات والصحافة والنشر، وثمن دفاعها عن بعض القضايا التي حاولت بعض الاقلام ان تشوش الرأي العام فيها مثل حوادث «شارع المعارض»، إلا ان هذا على رغم فداحته ليس الأهم في هذه القضية.
اذا تكلمنا مهنيا، وبصورة موضوعية، فكل الاقلام التي يشكل لها هاجس الضمير، همّا حقيقيا وهي تطرح قضايا الناس، لن تكون إلا مدافعة من الطراز الاول عن قانون يحمي حرية الرأي والتعبير، إلا انك تجد نفسك بعض الاحيان امام نماذج تعد الدفاع عن قانون يحمي حرية الرأي والتعبير صورة من الصور البكائية على المواقع والمناصب والمنابر الاعلامية، وتمزج هذا التدليس والزيف بشيء من الحس الطائفي المريض، الذي لا يخلو من نكاية وتحريض واضح على الآخرين. امام هذه المفارقة العجيبة، كيف تتصور وجود هذا البون الشاسع، بين كاتب يدعو الى اطلاق الحريات، وكاتب يدعو الى تقييدها؟ كيف يصل الانسان الى ان يشي بنفسه الى غريمه اذا صح لنا ان نطلق ان الهم الصحافي واحد بين الصحافيين؟ كيف لنا ان نتصور مثل هذه النماذج في التفكير؟ وكيف نتصور مستقبل الاصلاح في ظل وجود كثرة نوعية من هؤلاء؟
مهنيا ايضا، قدمت «الوسط» 38 ملاحظة على التعديلات التي اجريت على قانون المطبوعات والصحافة والنشر الجديد، وقدمت نقابة الصحافيين (تحت التأسيس) العدد نفسه من الملاحظات، بينما استنكفت الجهات المعنية الاخرى تقديم اية ملاحظة تذكر. فكيف نفهم ذلك مهنيا؟ عدم وجود ملاحظات على قانون المطبوعات في ظل وجود جهتين متفقتين على الملاحظات نفسها أم انه تمهيد للأخذ برأي الغالبية؟ فإذا ما تم تعديل القانون أو بعضه فالكل شريك في قطف ثمار تعب الآخرين، والكلام يبجل عهد الإصلاح والانفتاح والحرية، والكل داخل في الكل، هذه والله قسمة ضيزى لا يقبلها منصف ولا عاقل، وهي تبعث على الحيرة، كيف يقبل الانسان بتكبيله والوشاية بنفسه؟ معادلة تحتاج الى حل في زمن التوازنات المقلوبة.
بعد كل هذه الاشارات، يشار الى ان وجود مفارقات واضحة وفاقعة بشأن قانون المطبوعات والصحافة والنشر بين جهات مشتغلة في الهم نفسه، تعني فيما تعني ان طبيعة فهم مشروع الاصلاح في حاجة الى تقنين وتحديد مركز، ووضع النقاط على الحروف، وإلا فإن الخوض اللامحسوب في القضايا الوطنية سيكون ديدن كل مدع ومبشر بالاصلاح على طريقته وسيمفونيته الخاصة، ويجب التنبيه ايضا الى ان حجم التكافل في القضايا المصيرية، لا ينبغي ان يساوي في قيمته امضاء قانون بجرة قلم، وإلا فأحلام الناس كلها ستذهب بجرة قلم، لذلك ينبغي ألا تؤخذ المعادلة على طريقة الغالب والمغلوب في القضايا الوطنية، وانما تحديد الاصلح حتى لو كان هذا الاصلح فردا معزولا أو جهة غير مرغوب فيها
إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"العدد 233 - السبت 26 أبريل 2003م الموافق 23 صفر 1424هـ