المحاضرة التي ألقتها الشيخة مي بنت محمد آل خليفة عن ضرورة إعادة كتابة التاريخ لها أهميتها. فبالإضافة إلى أنها أحد أفراد الأسرة الحاكمة فإن الشيخة مي أيضا مسئولة عن التراث بوزارة الإعلام وهي تدير منبرا ثقافيا رفيع المستوى انطلاقا من المركز الذي تديره من مدينة المحرق.
فمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في المحرق هو ذاته يعبر عن نهج نوعي ومطلوب بصورة ملحة، وقد قام المركز (بإشراف الشيخة مي) بدعوة عدد من أهم الشخصيات الفكرية في العالم... ويحتضن مكتبة متخصصة في هذا المجال.
الرسالة المهمة التي بعثتها دعوة إعادة كتابة التاريخ انطلقت من حقيقة ان «التاريخ الحالي هو المنهج المقرر في المدارس، الذي يصدر عن جهة رسمية كمادة تعليمية، وليست بحثية قابلة للنقاش» بحسب تعبير الشيخة مي. وقالت أيضا: «إننا اليوم بحاجة إلى إعادة النظر في بعض المقولات أو الاستنتاجات التاريخية، واننا مطالبون في عصر ما بعد الحداثة بفتح نوافذنا جميعها، لتصبح المراجع والمصادر الأولية في متناول الباحثين، وان نواصل إصرارنا على وضع حد أو نهاية لتلك الوصاية التي تفرضها المرجعيات المزاجية...».
هذه التصريحات المباشرة تعتبر الأجرأ، إذا أخذنا في الاعتبار شخص المتحدث وموقعه الرسمي، وهي أيضا ما يمكننا التحدث بشأنه في عصر انفتاحي نعيشه منذ فبراير/ شباط 2001. هذا العصر الذي يحاول بعض أصحاب العقليات القديمة الغاءها وارجاعنا إلى عصر أمن الدولة...
ان كلام الشيخة مي أصاب جوهر المشكلة لدينا، فلقد عانينا كثيرا من كتابات مزاجية سواء كانت رسمية أو غير رسمية حاولت تشويه تاريخ البحرين ارضاء لهذا الطرف أو ذاك. وهناك من الأقلام المريضة التي نشرت مقالات وكتبا عن تاريخ البحرين وحاولت ومازالت تحاول بث السموم أو أنها حاولت الغاء طرف بكامله بل ان بعض الأقلام المسمومة، ومن دون خجل، اتهمت اتهامات تليق بها دون غيرها وألصقتها فيمن يتم استهدافه من تلك الكتابات الموجهة سياسيا والنابعة في كثير من الأحيان من أحقاد جاهلية.
تاريخنا تحيط به جدران الصمت، كما عبرت الشيخة مي، لأن هناك من لا يعجبه تاريخ البحرين الممتد من الفترة الدلمونية مرورا بالتاريخ الإسلامي وحتى التاريخ الحديث.
وفي مطلع الثمانينات اكتشف أحد الأطفال قبرا في كرانة لأحد قيادات أو وجهاء البحرين قديما واحتوى القبر على قطعة خشبية بحجم التابوت نقشت عليها كتابات تعرف بالشخص والفترة الزمنية. ولكن القبر يكاد يدثر والقطعة الخشبية التي صاغتها أيد محترفة في زمانها اختفت أيضا.
ولو كانت هذه في بلاد أخرى لوجدتها معلقة في مكان مهم وتم دراستها عدة مرات لأنها تكشف لنا الكثير مما نجهله عن تاريخ بحريننا.
الجهود المبذولة من قبل الشيخة مي بحاجة إلى مساندة من جميع المهتمين بتاريخ البحرين. فهي تشرف حاليا على مشروعات مهمة مثل تحويل بيت المرحول عبدالله الزايد صاحب أول صحيفة بحرينية في مطلع القرن الماضي إلى مركز للتراث الصحافي والبيت عمره أكثر من مئة سنة وسيتم عرض صحيفة البحرين والصحف الأخرى مثل صوت البحرين والقافلة وبقية الصحف التي صدرت في القرن الماضي.
كما وأن هناك برنامجا لتحويل بيت محمد بن فارس إلى «دار الصوت» يحتوي على الاسطوانات التي تم تسجيلها منذ عقود مضت وهناك أيضا نية لتحويل بيت الشاعر المرحوم ابراهيم العريض إلى «بيت الشعر» تُحتوى فيه الابداعات الشعرية وكيف تطور الشعر في البحرين.
ونحن بحاجة إلى المزيد إذ يمكن تحويل جزء من ضريح الشيخ ميثم إلى «بيت الفلسفة»، أو كما كان يطلق على الفلسفة قديما «الحكمة» فلدينا تراث فلسفي يمتد عمره الزمني أكثر من سبعمئة سنة وهو بلا شك يفوق ما هو موجود في دول مجلس التعاون الأخرى.
كما يمكننا الاعتناء بضريح الأمير زيد وتحويل جزء منه لدراسة الفترة التاريخية التي كان يشرف فيها على شئون البلاد، وهذا جزء من تاريخ بلادنا المتوافر لدينا ونستطيع احياءه واستخدامه كمواد أساسية للبحث العلمي في التاريخ.
البحرين في كل مكان لديها آثار ومعالم تاريخية لا توجد في كثير من المناطق المجاورة، ونستطيع بجهود رسمية وجهود أهلية طوعية إعادة أحياء هذه المعالم كلها على أسس حضارية، بحيث تتشكل لدى المهتم صورة واضحة لما كانت عليه البحرين منذ حضرة دلمون حتى وقتنا الحالي...
ان تاريخ البحرين أمانة في أعناقنا ولا يجوز ترك الأقلام غير الأمينة تنشر ما تشاء من دون أن ننشر ما يتم تحقيقه علميا من دون انحياز ومن دون أمراض
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 233 - السبت 26 أبريل 2003م الموافق 23 صفر 1424هـ