العدد 232 - الجمعة 25 أبريل 2003م الموافق 22 صفر 1424هـ

للتذكير:«لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين»

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

اللحظة الراهنة المشحونة بالمزيد من الألغام المدمرة، المندفعة عربتها بزخم إضافي استمدته من سقوط بغداد؛ تفرض استحضار وصية «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، للتذكير بها. بل للحث على العمل بها والتحرك على هديها؛ وإلا فإن الكارثة مرشحة للتكرار والتناسل، إلى حين.

فور حصول الانهيار العراقي ومن دون خسارة وقت، استدارت الإدارة الأميركية شطر سورية وبدأت تمطرها بوابل من الاتهامات الملفّقة والتهديدات المتوالية، وبما يحمل على الاعتقاد بأنه جاء دور دمشق بعد بغداد. وهو اعتقاد مشروع وفي محله. ألم يفبركوا السيناريو العراقي بهذه الطريقة وبالإخراج نفسه: نبشوا الدفاتر القديمة، سحبوا منها مزاعم أسلحة الدمار والارهاب وعلاقات مع جهات ومنظمات مطاردة أو مشبوهة. ثم بنوا عليها كدسة من الذرائع جرى توظيفها لافتعال قضية، كانت الممر لعدوان سافر.

التلفيقة ذاتها يجرى توضيبها الآن. ولو من زاوية مختلفة، وفي ضوء التجربة التي لم يتوقف نزيفها بعد، كما في ضوء سياسة الإدارة المعروفة تجاه المنطقة برمتها، من المفترض أن يؤدي هذا التشابه إلى نتيجة مماثلة، وان ليس بالضرورة إلى نسخة طبق الأصل تفرض الحيطة وعدم جواز المجازفة في أمور مصيرية من هذا النوع، وبالتالي التعامل مع التهديدات والاتهامات ضد سورية، من باب انها ـ على الأقل ـ محاولة جادة لتسويغ مواجهة ما معها.

لكن الوضع العربي، السياسي والإعلامي، في معظمه بدا وكأنه يفضّل أن ينأى عن رؤية الخطاب الأميركي تجاه دمشق، من هذا المنظار. ربما لأنه بات مدمنا على القرارات الواهمة أو المبسِّطة للأمور. غالبية التصريحات والردود تعاملت معه كما سبق وتعاطت مع إصرار إدارة بوش على حربها ضد العراق: رفض ولقاءات واتصالات وفي أحسن الأحوال، تحذيرات خجولة، يغيب عنها التلويح بأية خطوات أو إجراءات جادة من الصنف الرادع. إما لأن العجز المعشعش لا يسمح بأكثر من ذلك. واما لأن تفسيرات هذا الخطاب تميل إلى عدم أخذ تهديداته على محمل الجد. فهي ترى أن لهجته المتشددة لا تهدف سوى إلى وضع دمشق تحت ضغوط قوية، مستفيدة من سقوط بغداد، لحملها على إحداث تغييرات في سياساتها المعروفة، أو الامتناع عن اعتماد سياسات جديدة تتعلق بعراق ما بعد صدام، منها: حملها على القيام بالمطلوب لتمرير خطة «خريطة الطريق» الفلسطينية، وتحديدا إقفال مكاتب الفصائل الفلسطينية المعارضة في دمشق، ونزع سلاح حزب الله. ومنها أيضا تحذير سورية من محاولة لعب أي دور يصب في دعم القوى المناوئة للاحتلال في العراق، بالإضافة إلى هذه التعليلات المستبعدة لمواجهة مع سورية، هناك من يتحدث بشبه اطمئنان عن هذا الاستبعاد، وذلك على أرضية أن الوضع الدولي لا يسمح هذه المرة باعتبار سورية غير العراق، فضلا عن أن إدارة بوش منقسمة بشأن سورية.

قد تكون هذه الأمور في عداد الغايات التي تنشدها إدارة الرئيس بوش، من خلال تهديداتها لسورية. لكن النبرة واللغة والخلفيات، ناهيك عن توجهات واشنطن المعلنة حيال الشرق الأوسط، تحمل على ترجيح الاعتقاد بأن ما يريده أصحاب هذا الخطاب هو أبعد من التهويل وينبغي أخذه على محمل الجد.

فالإدارة الأميركية تتحدث هنا عن «تغييرات» مطلوبة في سورية، وعن وصول هذه الأخيرة إلى «مفترق طرق»، وضرورة أخذها الدرس والعبرة من الذي حصل في العراق. ومثل هذه المفردات تنطوي على أبعاد ومضامين أبعد بكثير من الإيحاء بوجوب إغلاق مكتب أو الكف عن مساعدة فصيل أو تنظيم لا ترضى عنه أميركا. فمثل هذه المطالب لا تستوجب مخاطبة سورية على المكشوف، وبمثل هذه اللغة. القنوات الدبلوماسية تكفي لمعالجة هكذا شئون، لو كان المقصود لا يتعداها.

ثم هناك السوابق والخلفية. فالتجربة العراقية مازالت حية. مقارنة بافتعال خطابها يومذاك مع توليفة الذرائع ضد سورية، اليوم تستحضر إلى الذهن مقولة «ما أشبه اليوم بالبارحة» كذلك هي متشابهة ظروف القفز إلى كلا الملفين. الملف العراقي قفزت واشنطن إلى تحضيره فور انتهاء العمليات العسكرية في كابول، وقبل طيّ ملف حرب أفغانستان. واليوم تنتقل إدارة بوش إلى التصعيد والتأزيم مع سورية فور توقف العمليات في العراق وقبل أن تضع الحرب هناك أوزارها، وكأنه على الحرب الأميركية أن تبقى متجولة في المنطقة، وأن يبقى محركها في حال دوران متواصل. أو ان دعاة الحرب في واشنطن أرادوا ـ ونجحوا حتى الآن ـ في تطبيق قاعدة «اضرب حديدا حاميا لا نفع منه إن برد». وقبل هذا وذاك هناك سياسة الإدارة الأميركية تجاه المنطقة، أفضل ما فيها ـ إذا جاز التعبير ـ هو وضوحها، بحيث لا يتطلب الأمر بذل أي عناء لقراءة رموزها أو ألغازها، فهي صريحة في أدبيات فريق الكواسر الحاكمين في واشنطن اليوم، ومنذ الثمانينات والتسعينات. ثم جاءت 11/9 لتضعها تحت الأضواء الكاشفة، وأكثر من ذلك، فلم يسبق لهذا الفريق أن طرح مقاربة أو استراتيجية إلا ودفع بكل قوة لترجمتها ـ إلغاء اتفاق الحد من الأسلحة للعام 1972، رفض اتفاقات الأسلحة الكيماوية وزرع الألغام الأرضية وبروتوكول كيوتو ومعارضة إنشاء محكمة جنائية دولية ـ كما لم يسبق أن تداولت إدارة بوش بشأن قضية أو سياسة ما إلا وكانت كفة هذا الفريق راجحة بالنهاية، وخصوصا في المجال الخارجي. والتحريض الحالي ضد سورية كما كان بالأمس ضد العراق، هم وراءه، صحيح ان الإدارة منقسمة الآن تجاه دمشق، وصحيح أن جناح وزارة الخارجية المتمثل بالوزير كولن باول يعارض تقريبا على المكشوف التوجه الحربي ضد سورية ـ ومن هذا المنطلق تقررت زيارته القريبة للمنطقة ـ لكن الصحيح أيضا أن هذا الجناح سبق وأخذ الموقف والتوجه ذاته تجاه الأزمة العراقية في البداية. لكن في نهاية المطاف كانت الغلبة لفريق قارعي طبول الحرب من ليكود واشنطن، بالتآمر مع ليكود تل أبيب.

لقد نجح كواسر واشنطن هؤلاء في تعطيل الدبلوماسية وإسقاط القانون الدولي ومؤسساته. وبذلك فرضوا على هذا الزمن طابع المواجهة. وهم كلما وجدوا رخاوة في وجههم ـ كما هي الحال عندنا ـ انفتحت شهيتهم أكثر على الاستباحة، وكلما وجدوا في طريقهم «لا» جدية ـ كما في الحال الكورية ـ انكفأوا على إباحة الحلول السلمية.

أمس قالت سورية أول «لا» مطلوبة للابتزاز الأميركي، عندما رفضت من البداية فكرة إخضاعها للتفتيش الدولي عن أسلحة الدمار في أراضيها. وهي «لا» كانت غائبة تماما في الموقف العربي من الأزمة العراقية. لكنها بحاجة إلى تطوير وتصليب، فهؤلاء الكواسر عينهم على عاصمة الأمويين وعلى متابعة لعبة الدومينو بعد أن أسقطوا عاصمة العباسيين. مفتاح قطع الطريق عليهم بيد المنطقة، فهل تستجيب هذه المرة للتحدي أم لا، نتعذب وننادي لأنه «لا حياة لمن تنادي»

العدد 232 - الجمعة 25 أبريل 2003م الموافق 22 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً