الاستبداد السياسي هو السمة البارزة للواقع العربي... سلوك مارسه النظام الرسمي العربي قديما عبر صور شتى ومازال يُستنسخ بصور مختلفة.
فالجريمة السياسية والجريمة الاقتصادية تكادان تكونان السمة البارزة لماضي وحاضر الدول العربية، وكل يوم تمر هذه الدول بصور شتى فيها من الدروس ما فيها، ولكن تمر التجارب من دون أن تكون هناك اية عبرة، وتزداد الهوة بين الأنظمة والجماهير...
وكأن التجارب تفرض ابتعادا بدلا من أن تزيدهم تقربا على رغم وجود ذلك الاقتناع العقلي بأن خيار الأنظمة عن الزوال والسقوط في يد الأعداء هو التلاحم مع الشعوب، وذلك لا يكون الا بعلاقة قائمة على اشراك الجماهير في صوغ القرار السياسي وتوزيع الثروة توزيعا عادلا بدلا من تبذيرها في مشروعات خاصة أو فاشلة. فإشكالية العلاقة بين الجماهير العربية وانظمتها، إذا تكمن في هاتين المعضلتين
- الاستئثار بالقرار السياسي.
- تكدس الثروة في يد قلة من أصحاب القرار.
هاتان المعضلتان اذا حُلَّتا فسيكون هناك توازن سياسي في المنطقة، وهاتان هما الموعظتان اللتان يجب أن نأخذهما من سقوط النظام الفاشي في العراق الذي اعتمد سياسة تجويع الشعب وسجنه واعتقاله، وراح يجمّل قبح الاداء بالتضليل الاعلامي وشراء عدد كبير من الصحف والقنوات والمثقفين للتسويق للنظام الذي عتا الى درجة انه سكن القصور الفارهة التي تحولت الى مدن كبيرة حبلى بالملاعب الرياضية والحدائق.... وراح يسرف في تبذير الاموال في الوقت الذي بقي الشعب ياكل الطين ويشرب الماء الآسن بينما كانت الحيوانات من الأسود والنمور في قصور صدام أفضل حالا من المواطن العراقي من ناحية الاكل والسكن وحتى جودة الطعام.
ما قام به صدام ليس غريبا فتاريخ النظام العربي الرسمي مدى السنين الطوال قائم على الاستبداد السياسي والسياسة المتسلطة والقمعية. فالتاريخ السياسي للخلفاء مليء بالصور الاستبدادية، فالمفكر العراقي هادي العلوي يذكر في كتابه «فصول من تاريخ الاسلام السياسي» نقلا عن كتب تاريخية معتمدة ان عدد الذين اعدمهم الحجاج في غضون 20 سنة من حكمه للعراق 100,000 انسان. بل ان جهاز السلطة قام باعدام عدد كبير من النساء، فسجون الحجاج كانت حافلة بالمعارضين السياسيين... إذ مات تاركا وراءه 50,000 سجين و16 ألف امرأة عارية في داخل السجن.
وكذلك هو تاريخ الدول العربية مليء بالمخازي والجرائم الاقتصادية والمالية... بينما الجماهير العربية تتضور جوعا من الفقر على رغم كثرة الموارد لدى أكثرية متخمة بالجوع والشبع. وبلغ اسراف النظام العربي تاريخيا الى مستوى من البشاعة الانسانية الى اللعب بأموال الأمة الى درجة الاسراف والتبذير الذي لا يطاق فبعد الفتوحات اصبح المال والذهب فائضا في يد الخلفاء حتى راحوا يحشون بالذهب اسنانهم وراحوا يتاجرون بالنساء... ففي الموسوعة الكبيرة للاصفهاني يذكر أن المتوكل كان يمتلك 4000 جارية وينقل أنه قام بوطئهن جميعا... سواء أكان عدد الوطء مبالغا فيه أم لا فإنه يدل على مدى تلك الصورة السوداوية لتاريخ الدول التي حكمت في ذلك التاريخ، ومستوى الاستهتار. المشكلة ترجع الى تلك العقد النفسية التي عاشها هؤلاء وهي عقدة الشبق النرجسي وقضية عشق الذات، وهذا مرض إذا أصيب به أي إنسان فلا يكاد يرى إلا نفسه، فلا يهمه مات الناس أم لم يموتوا فأهم مسألة أن يعيش هو، أن يتمدد هو... وهذا هو الإشكال القديم الجديد الذي تكرر في أمثال الحجاج وهتلر وبوكاسا وستالين وصدام حسين وغيرهم فكل هؤلاء اختزلوا الدول في ذاتهم والغوا كرامة الإنسان... هذه الإشكالية بدأت تتسع حتى في نظامنا العربي إلى درجة أن الدول أخذت تنافس رعاياها حتى في تلك اللقمة الصغيرة... وأخذت تختزل كل المجتمع في ذاتها وفي القضايا التي تهمها، والغي المجتمع بل اختطف ليختزل في ذات السلطة... وخير مثال صدام الذي عندما ذهب ذهبت معه كل المؤسسات... ان الدولة التي لا تراعي خصوصية الشعب ولا تراعي ما يعانيه من فقر وحرمان إذ «الجوع كافر» و«الفاقة أم الجرائم» وهي «ألد أعداء الكرامة» بطبيعة الأمر هي تقود نحو الطبقية وتداعياتها... وهذا عين ما طرحه الصحافي الشهير هيكل من واقع مزر وطبقي بدأ يتسع في مصر، ويتكرر في كل الدول العربية إذ أبناء المسئولين يتنافسون في تبديل سيارات المرسيدس، والفقراء من عامة الشعب ليس لهم طعام يؤمنون به يومهم. إذ بدا الفقر في العالم العربي في ازدياد، وما اندلاع أزمة الخبز في الأردن قبل سنوات إلا دليل على ذلك.
يقول الصحافي الشهير عادل حمودة وهو يتكلم عن تلك الحالة المرضية: «وآخر ما يمكن أن يقال ما قاله الرئيس حسني مبارك بعد أن انتهى من اطلاق القمر الصناعي (نايت سايت) قبل سنين قليلة في مدينة الحمام... قال: «انني لا تعجبني تلك الظواهر السلبية التي انتشرت بين بعض رجال الأعمال الذي يبالغون في المظهرة والاسراف بالسيارات الفارهة والحفلات الصاخبة التي تثير الاستياء... ان بعضهم يحضرون الطعام من الخارج بالطائرات»، ثم تساءل الرئيس: لماذا لا يعطون المحتاجين هذه الأموال بدلا من صرفها على أشياء ليس لها معنى سوى المظهرة». (الملفات السرية والشخصية لأشهر الهاربين ص27).
إن هذه المظاهر الاستفزازية لابد وأنها تضغط على ضمائر الناس، وخصوصا عندما تشعر بانتقائية التوزيع وانتقائية الاقصاء... هذا يحدث في الوقت الذي يوجد فيه مصريون يعيشون في المقابر... هذا الواقع الاجتماعي الحاد هو أكثر مكان خصوبة للتطرف. ولكن للأسف الشديد مازال النظام العربي الرسمي يحاول أن يقفز على هذا الواقع بتجميل ادائه عبر تضخيم الإنجازات وما إلى ذلك، على رغم انه يشعر بقيمة الخبز لدى الشعوب بل لدى الإنسان فمعدة الجائع لا يمكن أبدا أن تتفهم الخطاب مهما كان جميلا... لذلك كان نابليون بونابرت رجلا ذكيا فقد كان يعتمد السياسة الواقعية مع جماهيره وجنوده فهو القائل «اشبع جنودي أولا ثم أبدأ المعركة».
المجتمعات العربية مازالت ترزح تحت الفقر وبدأت تنحدر من تحت خط الفقر إلى تحت خط القبر فهي تجعل المال العام عرضة للفساد الإداري والمالي والتبذير في مشروعات وهدايا وغيرها... فلقد أفصحت احدى المجلات الأجنبية أن السلاح المصنوع من الذهب الخالص والذي عثر عليه في قصور صدام كان قد أعطي إلى صدام من احدى الدول العربية التي هي من أكثر الدول فقرا.
من يحب النظام العربي الرسمي لابد أن يقدم له النصحية الوطنية، وأجمل نصحية وأفضلها هي أن تبنى علاقة هذه الدول مع شعوبها على الصدق والصدقية وذلك لا يكون إلا بديمقراطية حقيقية، وبتوزيع عادل للثروة أو بترسيخ العدالة الاجتماعية... فإلى متى تبقى هذه الجماهير تعاني الفقر والجوع والأموال تهدر في مشروعات خاصة أو تستثمر في الخارج من دون أن يكون لها ردود على ذات الجماهير... المجتمع العربي عرف بالتسامح فهو لا يبحث إلا عن كرامة ومواطنة قائمة على تحقيق الحقوق... ولذلك يبقى السؤال: هل ستعمد الأنظمة العربية إلى سياسة أكثر شفافية وانفتاحا، وهل ستتوجه إلى تقوية البنى التحتية لشعوبها فترفع من مستواهم السياسي والاقتصادي أم ستقبل بتلك القناعة التي ما اسعفت رجلا كان الأقوى نظاما وجيشا ومالا، ولكن كل ذلك لم يسعفه؟ لانه نسى أن ذلك لا يتم مادام شعبه بلا حرية وبلا رغيف خبز... في نهاية المطاف سقط صدام وتلاشت كذبة «بالروح بالدم نفديك يا صدام»... ولم تنفعه كذبة نفسه الانتخابية 100 في المئة
إقرأ أيضا لـ "الوسط"العدد 232 - الجمعة 25 أبريل 2003م الموافق 22 صفر 1424هـ