العدد 232 - الجمعة 25 أبريل 2003م الموافق 22 صفر 1424هـ

استراتيجية جديدة تضمرها القوة الأميركية ضد أوروبا الموحدة

إيمان شقير comments [at] alwasatnews.com

.

لم يعد ممكنا حجب عمق الاختلافات في وجهات النظر بين طرفي الاطلسي او ما يسمى بالعالمين القديم والجديد: اوروبا وأميركا. هذا ما يستنتجه الخبير في شئون أوروبا في معهد الابحاث المحافظ «مؤسسة الارث» في واشنطن، جون هولسمان، الذي يكشف ان في برنامج الدبلوماسية الاميركية ايجاد الانقسام داخل المجموعة الاوروبية على كل الموضوعات من اجل منعها من الاضرار بمصالح القوة الاميركية العظمى وهيمنتها على العالم.

وكتب هولسمان في مجلة «لايمز» الفصلية، وهي مجلة جيوبوليتيكية تصدر في ايطاليا: «ان السنوات الاخيرة كشفت عن اختلافات سياسية حقيقية بين الولايات المتحدة وحلفائها الاوروبيين عن موضوعات كثيرة منها: حرب الموز، الاغذية المعدلة جينيا، التجارة العالمية، الاصلاح الزراعي، شرعية الحكم بالاعدام، النزاع العربي الاسرائيلي، العقوبات على العراق، دور المؤسسات الدولية على المسرح الدولي، حق الدول في اللجوء الى القوة، بروتوكل كيوتو، محكمة الجنايات الدولية، برنامج الدفاع المضاد للصواريخ، الخلافات الايديولوجية بين الولسونية الأوروبية وبين الواقعيين والمحافظين الجدد الاميركيين، مهمات خلف الاطلسي، الاحادية الاميركية، دور تركيا في الجهاز الغربي، نظرية التدخل الانساني وتنظيم الاقتصاد والمجتمع... الى ما هناك من موضوعات أخرى كان آخرها وأهمها موضوع الحرب على العراق.

ويشير هولسمان الى تشديد الاوروبيين المتزايد في نضالهم من اجل بناء وحدة اوروبية سياسية اكثر مركزية وفيدرالية واشد تلاحما، على العناصر التي تميزهم عن الاميركيين. ويقول: بالنسبة إلى الديغوليين الاوروبيين الجدد فان وجود قطب اوروبي يشكل قوة توازن فعالة في مواجهة قوة أميركية لا حدود لها. وصحيح ان فرنسا كانت الأكثر حذرا تجاه الولايات المتحدة، إلا أن الديغولية الجديدة هيمنت على مجموع القارة الاوروبية منذ السبعينات. فمع زوال التذمر الوحدوي للدب السوفيات، لم يعد هناك ما يحجب واقع اختلاف المصالح الدولية لكل من الولايات المتحدة ومختلف الدول الاوروبية فبرزت الولايات المتحدة من «الحرب الباردة» كالقوة العظمى الوحيدة في العالم، في حين ظهرت الدول الاوروبية كمجموعة قوى اقليمية. ولم يكف ان أميركا عززت موقعها خلال تلك المرحلة الحديدة، بل ان اوروبا في المقابل أظهرت عجزا في النهوض كقوة متلاحمة. وان مجرد الانطباع ببروز أميركا متجددة اكثر حرية في التحرك مقابل أوروبا منطوية على ذاتها مهمشة، يفسر الى حد واسع ليس فقط الاختلافات السياسية بين القطبين بل ايضا الحدة المتنامية التي ينظر فيها الكثير من الاوروبيين الى التوجهات السياسية الاميركية التي لا يتفقون معها. ويشكل نموذج الضعف العسكري الاوروبي في هذا السياق مثالا معبرا. فبالنظر الى فقر النفقات العسكرية الاوروبية، ليس من المستغرب ابدا ان يرفض الكثير من الساسة الاوروبيين بشدة أي استخدام للآلة العسكرية في العلاقات الدولية، وان يرفضوا اللجوء الى القوة ويفضلوا العيش في عالم تحكمه القوانين والمؤسسات الدولية، وان يناضلوا من اجل ان يكون لكل الدول حقوقا متساوية تحميها قواعد سلوك معترف بها دوليا. فهنا لا يفعل الاوروبيون سوى تحويل ضرورة واقعية ملموسة الى فضيلة فلسفية. وهناك شكل آخر من التوازن بالنسبة إلى الأوروبيين الديغوليين الجدد هو توريط الولايات المتحدة في المؤسسات المتعددة الاطراف حتى يكون لهم كلمتهم ورأيهم في كيفية استخدام القوة الاميركية العظمي الهائلة. وهذا الواقع يفسر اصرار فرنسا على المطالبة بوجوب مرور أي عمل ضد صدام حسين عبر مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة، إذ لباريس حق النقض (الفيتو). ويعتبر هولسمان انه من الخطأ المبالغة بقدرات أوروبا على النهوض كقوة مهمة رئيسية على المدى المتوسط والطويل. فمن الناحية العسكرية لا تنفق أوروبا الآن سوى ثلثي ما تخصصه الولايات المتحدة لنفقات الدفاع ولا تملك سوى اقل من ربع قدرات الانتشار العسكري الاميركي. وباستثناء فرنسا وبريطانيا، لا يمكن لأى دولة أوروبية اليوم القيام بحملة عسكرية في أي نقطة من الأرض من دون الاستعانة بقدرات النقل الاميركية... ونظرا لضعف وفقر الاقتصادات الاوروبية وتحفظ الرأي العام الاوروبي تجاه الانفاق العسكري، فان لا شيء ينبئ بتحول هذا الانهيار.

وفي رأي هولسمان ان هناك عنصرا آخر مهم يمنع أوروبا من أن تشكل قوة عظمى هو الجمود الاقتصادي. فالسنوات الاخيرة من التسعينات لم تحول أوروبا الى «ارض الميعاد» التي توقعها كثيرون بكل ثقة. بل وبدلا عن ذلك، نشأت مشكلات بنيوية جدية مهملة - صرامة العمل، مسألة التقاعد والازمة الديموغرافية، شبكات الرعاية الاجتماعية وعدم تقليص البطالة، الدور المفرط للدولة في النمو الاقتصادي، الى ذلك، جاء اليورو ليزيد من حدة الوضع الاقتصادي الصعب... وقليلة هي المؤشرات التي تظهر ان أوروبا ستستطيع التعويض عن تأخرها الاقتصادي بالنسبة إلى الولايات المتحدة على المدى القصير أو الطويل. كما ان الاختلافات على الصعيد الاقتصادي بين دول أوروبا هي أكثر من التشابهات، ما يصعب تحديد أي سياق اقتصادي أوروبي مشترك.

كما يرى هولسمان ان الاوروبيين بعيدون تماما عن تطوير سياسة خارجية وامنية مشتركة. ويكفي التبصر في قضية الحرب والسلم - وما العمل بالنسبة إلى عراق ما بعد صدام، للتأكد من الغياب الكامل لاي تنسيق على المستوى الاوروبي حتى بين الدول الثلاثة الاقوى لأوروبا: بريطانيا، فرنسا والمانيا.

إذن، يستنتج هولسمان ان اوروبا تعاني من ضعف عسكري وجمود اقتصادي وانقسام سياسي. وهذه حقيقة يفترض بالاميركيين النظر إليها مليا لأنها تشكل بالنسبة إليهم واقعا مطمئنا. فغياب الوحدة الاوروبية يوفر لاميركا فرصة فريدة. وليس أمامها سوى العمل على وضع منهجية تتيح لها ادارة هذه الفوارق والوقوف في الوقت نفسه الى جانب قارة لن تكن رافضة تماما ولا موافقة تماما على المبادرات الاميركية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. ومن اجل تحقيق هذه الخطة، من الضروري عدم اعتبار اوروبا بمثابة كيان متراص. ويشكل الموقف الاميركي من بروتوكول كيوتو نموذج عبرة في هذا السياق. فبرفضها المطلق للبروتوكول وعدم طرحها أي سياسة ايجابية بديلة، ورفضها التعاطي مع الاوروبيين نجحت الادارة الاميركية في توحيد الاوروبيين. فكانت كيوتو عبرة لها، وعندما تعلق الامر ببناء نظام مضاد للصواريخ، ارسل البيت الابيض ممثليه إلى العواصم الاوروبية إذ اكتشفوا ان الخطاب «الاوروبي» مجزأ ومنقسم اكثر مما بدا عليه من الوهلة الاولى. وأدت مساع دبلوماسية مكثفة إلى التوصل إلى قبول كل من اسبانيا، إيطاليا، بريطانيا، بولندا، وهنغاريا وأخيرا روسيا بالمبادرة الأميركية بدرجات مختلفة. فعبر بحثها عن حلفاء أوروبيين محتملين على الصعيد الوطني، استطاعت واشنطن «قطف» ثمار لصالحها وتجنب كارثة دبلوماسية. وما يدعو إلى السخرية، ان هذه السياسة الواقعية تتطلب التزاما سياسيا ودبلوماسيا قويا تجاه أوروبا، ولكن مع كل دولة على حدة، والتعامل مع بروكسل على الصعيد الدولي بجدية أقل.

ويرى هولسمان أن على أميركا التنبه دوما إلى الخلافات الأوروبية الداخلية حتى تستغلها لإنشاء تحالفات طوعية جانبية حول مبادرة سياسية معينة. ويقول إن أوروبا كما هي عليه اليوم تناسب تماما المصالح الأميركية - فتستطيع الدول الأعضاء فيها دعم الولايات المتحدة حين تتطابق مصالحها مع المصالح الأميركية، إلا أن أوروبا ضعيفة جدا لتستطيع معارضة أميركا بسهولة بشأن المسائل الجوهرية المتعلقة بالأمن. من هنا فان اعتماد «القطف الانتقائي» كاستراتيجية شاملة ستسمح ببقاء واستمرار الوضع الحالي. فيستطيع «القطافون» في واشنطن، وعلى الصعيد العسكري العمل على استشارة الحلف الأطلسي حول الشئون العسكرية المهمة وإنشاء تحالفات طوعية جانبية أو تشكيل «قوة عمل عسكرية مشتركة» للقيام بمهمة محددة تستخدم الوسائل المشتركة للحلف، أو إنشاء تحالف دول متطوعة من خارج الحلف الأطلسي يلتزم بتحقيق مبادرة محددة قائمة على مصالح مباشرة مشتركة. وفي حال فشلت كل من هذه الخيارات الثلاثة تقرر أميركا التصرف لوحدها.

ويعتبر هولسمان أن استراتيجية «القطف الانتقائي» وانشاء تحالفات طوعية جانبية تنطبق على مختلف القضايا الاخرى ايضا مثل قضية التبادل التجاري الحر، إذ يمكن لاعضاء التحالف الطوعي ان ينتقوا أنفسهم بانفسهم وفقا لالتزامهم الصادق بنظام تجاري ليبرالي. فيمكن مثلا للدانمرك واستونيا وفنلندا واللوكسمبورغ والمملكة المتحدة الانضمام الى الولايات المتحدة اضافة الى دول اخرى خمس غير اوروبية لتشكيل رابطة التبادل الحر العالمي. ولذلك من الأفضل فك القيود التي تربط هذه الدول بالاتحاد الاوروبي وبالتالي فانه من مصلحة الولايات المتحدة ألا تتبنى بريطانيا عملة اليورو.

وفي رأي هولسمان ان مثل هذه السياسة ستعزز وجود أوروبا «على الخريطة» يستطيع كل بلد منها اختيار عناصر التجربة الاوروبية التي يرغب في ممارستها.

ويختم هولسمان بالقول: «ان قيام أوروبا تتوسع بدلا من ان تتعمق، أي أوروبيا على الخريطة تتوجه الجهود للابقاء على اقل قدر ممكن من المركزية والتجانس فيها، هو امر يوافق المصالح الاميركية كما يوافق مصالح مواطني دول القارة. أما أي اجراء يصب في تحقيق المركزية، مثل تبني بريطانيا لليورو وقيام سياسة خارجية وامنية مشتركة وتنسيق السياسات الجمركية - فيجب على المتحدة ان تعتبره محاولة لبناء قطب مواجهة لها، لانه سيعني نهاية أي رابط بين عالمي ما عبر الاطلسي. إلا انه يمكن تفادي مثل هذه النهاية من خلال استراتيجية «القطف الانتقائي» التي تناسب حقائق العالم الذي نعيش فيه اليوم، عالم تعمل فيه الولايات المتحدة بشكل متعدد الاطراف حين الاستطاعة، وبشكل أحادي الجانب حين الضرورة

العدد 232 - الجمعة 25 أبريل 2003م الموافق 22 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً