قبل أن تستقر الأوضاع السياسية في العراق بدأت الولايات المتحدة بتوزيع تهديداتها لدول الجوار. مرة تهدد سورية، ومرة إيران، ومرات قوى المعارضة الداخلية التي ظهرت على الساحة ولم تكن واردة في حساباتها حين استوردت «من الخارج» السلطة البديلة لنظام صدام.
التهديدات واضحة في علاماتها السياسية. فهي تقول لدول الجوار الجغرافي: اتركوا العراق لنا وإلا... كلمة و«إلا» تعني الكثير فهي تشير إلى إمكان نقل المعركة إلى خارج العراق بذريعة ملاحقة «فلول النظام» أو بذريعة وجود «أسلحة دمار شامل» أو أن «الجوار» يمول أو يساعد قوى المعارضة الحقيقية على التحرك ضد الغزاة ومنع احتمالات التطبيع مع الاحتلال.
منطق التهديدات يحمل أكثر من وجه أميركي في المنطقة. فهناك أولا: محاولة الهيمنة على الفريسة واعتبار العراق «غنيمة حرب» لا يحق لأي طرف لم يوافق أو يشارك في الحرب، المساهمة في إعادة الإعمار أو المشاركة في النظام البديل. وهناك ثانيا: محاولة دفع القوى المتضررة من الحرب خارج الساحة السياسية. وهناك ثالثا: تركيب وضع داخلي يميل كليا إلى القبول بالاحتلال. وأخيرا هناك محاولة رسم تصورات سياسية لدور «العراق الجديد» في تهديد أمن المنطقة واستقرارها في الشهور المقبلة.
فالعراق بحسب ما تريد قوله التهديدات الأميركية أولا وليس أخيرا. وهو المحطة الأولى في سلسلة حلقات وليس الأخير. انه البداية وليس نهاية الحرب. والكلام الأميركي عن تهديدات اقليمية للاستقرار السياسي في العراق هو لذر الرماد في العيون وتضليل الرأي العام العالمي وتمييع حقيقة ما يجري حتى تبقى صورة الوضع غائمة وغير واضحة.
التهديد الحقيقي ليس من دول الجوار بل من الوجود الأميركي في العراق ضد دول المنطقة وتحديدا تلك المجاورة سياسيا وجغرافيا لبلاد الرافدين. سابقا كان العراق هو الدولة المحاصرة بينما الآن أصبح العراق هو الدولة التي تحاصر... ومنه ستنطلق كل «المؤامرات» لإثارة الفتن والقلاقل وعدم الاستقرار في المنطقة ودول الجوار تحت شعارات ومسميات مختلفة.
هناك عناوين متعددة للمرحلة المقبلة بدأت تظهر معالمها الأولى في فلسطين وتحديدا في توجهات السلطة الفلسطينية في فترة ازدواجية القرار بين رئيسها التقليدي ورئيس الوزراء الجديد المكلف من عرفات والمعين من واشنطن.
مراقبة العنوان الفلسطيني تعطي فكرة عن اتجاه الرياح السياسية في المرحلة المقبلة. فالدفع الأميركي نحو ترتيب «البيت الفلسطيني» على وحدة منقسمة بين قرارين يعطي فرصة لـ «إسرائيل» للتلاعب والتفاوض مع طرف واهمال الآخر لا بهدف تأسيس «دولة مستقلة» بل من أجل اضعاف وحدة الشارع الفلسطيني وفرض المزيد من التنازلات عليه.
إضعاف الانتفاضة والتلاعب بالانقسام السياسي الفلسطيني يريح ارييل شارون ويعطيه فرصة جديدة لفرض برنامجه الخاص الذي يستظل الاستراتيجية الأميركية العامة والهجوم الشامل على دول الجوار الفلسطيني. أميركا تضغط من جانبها على دول الطوق (الجوار) حول العراق و«إسرائيل» تستفيد من هذا الضغط الأميركي لتضغط بدورها على «البيت الفلسطيني» قبل الانتقال إلى مرحلة أعلى وهي الضغط على دول الطوق (الجوار) حول فلسطين.
والسؤال إلى أي حد يستطيع شارون استخدام الاستراتيجية الأميركية لتغذية مشروعه الخاص في فلسطين والمنطقة؟ يرتبط السؤال بآخر: ما هي حدود استخدام أميركا لطموحات «إسرائيل» وأهدافها الخاصة في المنطقة؟.
الجواب له صلة بالاستراتيجية الكبرى التي تقودها أميركا في المنطقة (أمن إسرائيل، الهيمنة على النفط وإعادة النظر في الخريطة السياسية). فهذه الاستراتيجية كما تبدو أكبر بكثير من حجم «إسرائيل» وقدراتها السياسية والعسكرية وبالتالي فانها لا تستطيع قيادتها أو تنفيذها نظرا لشمولها رقعة جغرافية واسعة لا يستطيع أي جيش في العالم إلا الجيش الأميركي تحقيقها بأقل الخسائر كلفة. والمثال العراقي هو أوضح دليل على الأمر.
«إسرائيل» لا تستطيع شن 1700 طلعة جوية يوميا كما فعلت الولايات المتحدة خلال حربها على العراق، كذلك لا تستطيع تنفيذ 32 ألف طلعة في فترة الهجوم على قواعد ومواقع الجيش العراقي واسقاط أكثر من 32 مليون كيلوغرام من الذخائر التقليدية وغير التقليدية (المشعة). و«إسرائيل» لا تستطيع ارسال أكثر من ربع مليون جندي لمدة شهور ويبقى اقتصادها يسير بطريقة عادية ومن دون مشكلة أو خلخل. و«إسرائيل» لا تستطيع رصد مئة مليار دولار لتدمير العراق ثم رصد 85 مليارا لإعادة اعمار ما دمرته آلتها الحربية.
المشروع الذي تخطط له «البنتاغون» وتقوده حفنة من «المجانين» و«الأشرار» أكبر بكثير من حجم «إسرائيل» وقدراتها وطموحاتها وأهدافها. «إسرائيل» هي المستفيد الأول من مشروع أميركا في تحطيم «الشرق الأوسط» وزرع البلبلة والفوضى والقلاقل والارهاب واللااستقرار في دوله... إلا أنها ليست الآن في وضع يسمح لها في قيادة المشروع الأميركي وحمايته كما كان دورها في السنوات السابقة على حرب الخليج الثانية (1990 - 1991).
بعد حرب الخليج الثانية انقلبت الأدوار. سابقا كانت أميركا تعتمد على «إسرائيل» لحماية أمنها ومشروعها. الآن وبعد العام 1991 سُحبت الوكالة الأمنية الاقليمية من تل أبيب وباتت «إسرائيل» تعتمد على أميركا في حماية أمنها ومشروعها. فحين ينزل الأصيل إلى الساحة تتراجع وظيفة الوكيل. وهذا الأمر هو جوهر الانقلاب في الاستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط».
التهديدات التي أطلقها البيت الأبيض ضد سورية وإيران ودول الجوار ليست «سحابة صيف». إنها تهديدات جدية وخطيرة... وعلى المنطقة أن تستعد لفترة «ما بعد العراق».
وليد نويهض
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 232 - الجمعة 25 أبريل 2003م الموافق 22 صفر 1424هـ