تدخل الحملة الصهيونية ضد الفلسطينيين مرحلة جديدة في ظل الاستهداف المباشر لفلسطينيي العام 1948، وخصوصا في مدينة عكا، التي أحرق المستوطنون الصهاينة العديد من منازل العرب فيها، بتغطية وتواطؤ من سلطات العدو التي تريد للمستوطنين أن يقودوا الهجمة الجديدة داخل عكا بعدما بدأوها في الضفة.
ويبدو أن الهدف الأساسي لهذه الحملة هو ترحيل العرب من قراهم ومدنهم لإقامة «الدولة اليهودية النقيّة»، كما وعد الرئيس الأميركي «جورج بوش»، الذي لا يزال يمارس دور الحاخام الأكبر في تأمين الغطاء للإرهاب الإسرائيلي المتواصل ضد الفلسطينيين، والإفساح في المجال لاضطهاد عرقي عنصري حاقد ضد العرب في القدس وبقية الأرض الفلسطينية.
ومن اللافت أننا لم نسمع أصواتا عربية أو فلسطينية في دائرة السلطة لإثارة المسألة على مستوى دوليّ، ولم نجد أيّ اهتمام من اللجنة الرباعية الدولية التي تستمر في خداعها بالحديث عن خريطة الطريق، فيما تراوح المصالحة الفلسطينية مكانها ولا تتقدّم خطواتها العملية، على رغم كل حالات الضغط والحصار والإرهاب التي يمارسها العدو ضد الفلسطينيين.
فلسطين: أولويات المصالحة الداخلية والانتفاضة
ونحن في الوقت الذي نتمنى أن تحظى الجهود المصرية في مسألة المصالحة بنجاحٍ يعيد الوحدة الوطنية الفلسطينية، ويؤسس لحكومة ائتلافية تخدم شعبها، وتعيد حركة التحرير إلى موقعها الطبيعي الذي يواجه الاحتلال من موقع واحد، نريد للجامعة العربية أن تتحرك لحماية الفلسطينيين وتسهيل المصالحة الفلسطينية الداخلية، وأن تمارس دورها في إثارة ما يتعرضون له من إرهاب وضغط أمام المحافل الدولية، وخصوصا الاتحاد الأوروبي.
ونريد للمقاومة الفلسطينية أن تبقى في حال جهوزية تامة لمواجهة العدوّ، في ظل الأوضاع المعقّدة التي تحيط بقضيتهم، وفي ظل استمرار الدعم الأميركي الأعمى للكيان الصهيوني، والذي نخشى أن يتزايد مع الإدارة الجديدة بعدما استمعنا إلى المرشحين الجمهوري والديمقراطي، وهما يتحدثان عن «إسرائيل» كما لو كانت الدولة التي تخضع لها أميركا، بينما يدور الحديث عن المقاومة بأنها حركة إرهاب لابدّ من محاصرة شعبها والضغط على فصائلها والتحرك الوحشي الأمني والاقتصادي والسياسي ضدّها...
إننا لا نرى تحريرا لفلسطين من الاحتلال اليهودي المتحالف مع الخط الأميركي بعيدا من الانتفاضة في خطتها التحريرية التي تربك كيان العدو وتمنعه من الاستقرار، وخصوصا إذا تضافرت جهودها مع جهود الأحرار في العالم العربي ـ الإسلامي ضد السياسة الأميركية والإسرائيلية.
أين فلسطين القضية في مؤتمر القدس؟
وقد انعقد في الدوحة الأسبوع الماضي مؤتمر للقدس دعا إلى كسر الحصار عن فلسطين، ومواجهة آلة التدمير الصهيونية وما تقوم به من تجريف تحت المسجد الأقصى، مع الإصرار على أن تتراجع الخلافات المذهبية بين السنّة والشيعة إلى مرتبة ثانوية أمام قضيّة القدس... كما دعا الأمة العربية والإسلامية وحكّامها إلى تحدي الخوف وكسر الحصار الظالم على فلسطين وعلى قطاع غزة...
إننا نلاحظ أن مثل هذه المؤتمرات لا تتحرك بخطوة واحدة نحو القضية الفلسطينية في أبعادها السياسية على المستوى الإقليمي والدولي، فمازال الغرب، وفي مقدمه أميركا، يخطط لتهويد فلسطين بالتأكيد على الدولة اليهودية العنصرية التي تجتاح أكثر أراضيها من دون أي ضغط عربي وإسلامي فاعل، لأن المسئولين في واقع الأمة اكتفوا بالتصريحات والاحتفالات والقرارات الاستهلاكية حفاظا على ماء الوجه أمام شعوبهم، وخضوعا للسياسة الأميركية التي تضغط على أوضاعهم السياسية، حتى تضيع البقية الباقية من فلسطين، وتتحوّل مسألة القدس ـ المسجد والمدينة والمنطقة ـ إلى انهيارات متلاحقة تموت فيها القضية وتضيع كما ضاعت الأندلس، ولاسيما أن بعض المشرفين على مؤتمر القدس مازالوا يشغلون الأمة بالاتهامات المثيرة في غزو مذهب لمذهب، بدلا من التركيز على غزو «إسرائيل» لفلسطين، وغزو الاستكبار الغربي للعالم الإسلامي. فالعصبية المذهبية عند بعض الرموز، ترقى إلى مستوى أعلى من الالتزام بالوحدة والسلامة الإسلامية، لينسى المسلمون، بفعل هذه الإثارة العصبية التي تتحرك بالجدل حول المذهب، كلّ قضايا الواقع المعاصر في حركة التحديات الخطيرة ضد كلّ الأوضاع الإسلامية.
ومن جانب آخر، فإنّ الأوضاع الأمنية لا تزال تسيطر بأخطارها الكبرى على المنطقة الإسلامية في أفغانستان وباكستان، حيث يسقط الكثير من الضحايا بفعل القصف الأميركي والأطلسي الذي يصيب المدنيين والأطفال في بيوتهم الآمنة، ثم يبادرون إلى تبرير ذلك بالحديث عن الخطأ الذي حصل، أو بالأكاذيب الإخبارية، بأنهم كانوا يقصفون الإرهابيين.
العراق: فوضى أمنية بأدوات تكفيرية
وهكذا تمتد الكارثة إلى العراق المحتل الذي يسقط في كل يوم المزيد من العراقيين الأبرياء، بالتفجيرات الوحشية/ والعمليات الانتحارية التي تشارك فيها النساء اللاتي يخدعهنّ الوحوش من التكفيريين، إضافة إلى التعقيدات الداخلية في إلحاق هذه المدينة أو تلك بإقليم كردستان أو بالمناطق العربية، ما يؤدي إلى خلل في العلاقات السياسية، أو يؤدّي إلى التجاذب بين السلطات الأمنية في حكومة المركز أو الإقليم. هذا إلى جانب الأوضاع القلقة التي تحكم العملية السياسية في الاختلافات الكثيرة التي تضعف البلد كله، ولا سيما في المرحلة التي تسبق الانتخابات.
ومن جهة أخرى، فإن العراق الذي عاش التعايش الإسلامي - المسيحي في تاريخه، فضلا عن العيش المشترك بين الفئات المختلفة دينيا ومذهبيا، قد واجه في هذه المرحلة اعتداء على المسيحيين أدى إلى مقتل 11 مسيحيا خلال عشرة أيام، وتفجيرا لثلاثة منازل في الموصل، وتهديدا بقتل أبناء الطائفة إذا لم يرحلوا، وذلك بفعلِ المتطرفين والمتعصبين من التكفيريين، إضافة إلى بعض القوى السياسية التي لا تريد للعراق أن يعيش الوحدة والاستقرار في تنوعاته الدينية والمذهبية. وقد أدى هذا الوضع الكارثي إلى عملية نزوح جماعي لمئات العائلات.
إننا ندين هذا العمل الشنيع الذي لا يقبله أي منطق إنساني وأيّ دين سماوي، وندعو إلى إيجاد علاقات طبيعية بين المسلمين والمسيحيين في كل المنطقة العربية تقوم على الحوار والاحترام المتبادل. ونحن نقدّر، في الوقت نفسه، مبادرة الحكومة العراقية، بالدفع باتجاه إجراء تحقيق فوري بشأن هذا الموضوع، واتخاذ الإجراءات الفورية واللازمة لإعادة العائلات المسيحية التي تم تهجيرها خلال الأيام الماضية، وحمايتها من أي عدوان جديد، ولابدّ للجميع من أن يعرفوا حقيقة الاعتداءات الواقعة في العراق، فهي ليست صراعا بين المسيحيين والمسلمين، بل هي مشكلة أمنية تصيب جميع العراقيين من قِبَل الاحتلال والجهات التكفيرية وجهات سياسية تستفيد من هذه الأوضاع لحساب مشاريعها الخاصة. ولذلك، فلا مجال لاستغلال هذه الأحداث المؤلمة في مسألة التخطيط لإزالة الوجود المسيحي في المنطقة.
لبنان: أولويات الأمن الاجتماعي والسياسي والاستقرار الداخلي
أما في لبنان، فإننا في الوقت الذي نشعر بشيء من الارتياح لكوننا لم نتأثر داخليا بالأزمة المالية العالمية، فإننا نتساءل عن مئات المليارات العربية التي ابتلعتها هذه الأزمة، والتي كانت كفيلة بحلّ مشاكل الفقر والمديونية في العالم العربي، وخصوصا في لبنان الذي لا تزال الوعود العربية تنزل عليه من كل حدب وصوب لحلّ مشاكله الكثيرة في المديونية، أو في مسألة الكهرباء، أو في تأمين مصادر الطاقة على أبواب فصل الشتاء والعام الدراسي الجديد.
إننا نريد للعرب ألا يتدفأوا على نيران الحرائق اللبنانية التي كادت تأكل أخضر لبنان الذي يتغنون به كأبرز بلد للاصطياف، خصوصا أن المسئولين في لبنان أعلنوا عجز البلد عن شراء طائرتين ضروريتين لإطفاء هذه الحرائق، كما نريد لهم أن يشعروا بأهمية الدفء في علاقاتهم الأخوية التي نريدها أن تعود إلى أفضل حالاتها، ليرتاحوا من مشاكلهم وعقدهم الذاتية، فيرتاح لبنان من ملفاتهم المثقلة بالهموم والغموم. ولذلك فنحن في الوقت الذي نرحب بالخطوة الأخيرة التي اتخذها الرئيس السوري، نأمل أن تكون فاتحة خير لعلاقات لبنانية سورية متينة، ولعلاقات عربية - عربية سليمة.
وأخيرا، إننا نرى أن الأمن هو الذي يمنح البلد القوة والاستقرار والنموّ والتطور، وأن المصالحات الجدية القائمة على المصارحة الواقعية هي التي تؤسّس للوحدة الوطنية، ونود أن نعرب أيضا عن تقديرنا للأجهزة الأمنية على دورها في ملاحقة المتسببين بالمآسي الأمنية والسياسية الأخيرة للبنانيين، ونؤكد ضرورة أن يكون جميع اللبنانيين خفراء لحماية أمنهم الاجتماعي والسياسي واستقرارهم الداخلي
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2240 - الخميس 23 أكتوبر 2008م الموافق 22 شوال 1429هـ