لم تقتصر فكرة التاريخ على المؤرخين بل شكلت الفكرة نفسها هما من هموم الفلسفة الإسلامية. ولا يمكن فهم تطور فكرة التاريخ عند المؤرخين إذا لم تفهم أيضا فكرة الزمان (التاريخ) في تصور الفلسفة الإسلامية وتطورها. ففكرة التاريخ استمدت أصلا من فكرة الزمان والخلق والمعاد (الحياة الأخرى) والحشر ويوم الحساب.
من فكرة الزمان بدأ الاختلاف بين فلسفتين: فلسفة الفقه (الأئمة، الفقهاء، الأشعري، والغزالي) وفقه الفلسفة (فرق المعتزلة، الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن باجه، ابن طفيل، ابن رشد). وتركز الانقسام على تفسيرين:
الأول قال به الغزالي، ويرى أن الزمان بدأ مع العالم وقبل العالم لا يوجد زمان. فالزمان مقياس الحركة ومن دون العالم لا توجد حركة. إذن فالزمان حادث.
والثاني قال به الفلاسفة، ويعتقدون أن العالم تابع لله منذ الأزل. فالزمان قديم لا بمعنى أنه علة نفسه وقائم بذاته، لكن بمعنى أنه تابع لله منذ القدم، إذن العالم لم يعد قديما بل هو حادث بمعنى أنه تابع في وجوده لله، وهذه التبعية موجودة منذ الأزل.
من هذه المسألة الفلسفية (قِدَم العالم) بدأ الاختلاف على الزمان وحدوثه، وهو خلاف قائم إلى أيامنا بين علماء الطبيعة والفيزياء والكيمياء والفلاسفة.
الافتراق بين فهمين
كيف بدأ الاختلاف؟ ومتى تم الافتراق بين فهمين فلسفيين لفكرة التاريخ (الزمان)؟ وما علاقة «الزمان» بالصفات وبدء الخلق ويوم القيامة؟
لخص ابن رشد فكرة الزمان والاختلاف عليها بين الفلاسفة والمتكلمين من الأشعرية إلى الحكماء المتقدمين، ويرى أنهم «اتفقوا على أن هاهنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة». فهناك «الطرف الواحد» وهو «موجود وجد من شيء، أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه، أعني على وجوده» وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، وهناك «الطرف المقابل» وهو «موجود لم يكن عن شيء، ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان» واتفق الجميع على تسميته «قديما» وهو مدرك بالبرهان. أما الواسطة بين هذين الطرفين فهو «موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء، أعني عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره».
يؤكد ابن رشد أن «الكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم» ويختلفون في «الزمان الماضي والوجود الماضي». فهناك من يراه أنه متناه (أفلاطون مثلا) وهناك من يراه غير متناه (أرسطو). ومن هذا المنطلق يرى ابن رشد أن الفلسفة تتفق مع الشرع لأن الشريعة تؤكد على «أن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين، أعني غير منقطع».
يلاحظ من الشرح المذكور أن فكرة الزمان في الفلسفة تعادل فكرة الأيام في علم التاريخ. فالفلسفة تبحث في تاريخ الكون (القديم والمحدث) وعلم التاريخ يبحث في تاريخ البشر (الأخبار والحوادث). ومن الصلة المذكورة تطورت فكرة التاريخ عند المسلمين إلى فلسفة ومن الفلسفة تشكلت فلسفة التاريخ (من فن إلى علم).
تؤكد الصلة بين الفلسفة (الزمان) والتاريخ (الحوادث) على ترابط نظام المعرفة، وهو أمر استمر يتطور على رغم انقسام الفلاسفة إلى مدارس تأويلية والفقه إلى مذاهب تفسيرية.
لاحظ الأمر نفسه الباحث إبراهيم العاتي في كتابه عن فكرة الزمان فوجد أن الزمن يرتبط بموضوع التاريخ، إذ إن الإسلام أكد على أن التاريخ «له بداية ونهاية». لذلك حاول ابن سينا التوفيق بين الرؤية الدينية والتصور الفلسفي وقرأ الرازي مسيرة التاريخ وفق رؤية تطورية متصاعدة إلى الأمام، بينما اختلفت نظرة المعري عن ابن سينا والرازي إذ ربط التاريخ بمشكلة المصير و «شكل المصير لديه أحد مصادر القلق والحيرة والتمزق». فالماضي عند المعري مضى والحاضر فانٍ والمستقبل زائل لذلك توصل إلى فكرة «عدمية للتاريخ والزمان».
على رغم أن حجة الإسلام أبوحامد الغزالي لا يثق بالمحسوسات، لأنها لا تعكس الحقيقة دائما، إلا أنه يؤمن بالحركة الدائمة ويلوم التيارات العقائدية التي رفضت العلوم أو أنها حاولت أن تضع الدين في مواجهة العلم. وبرأيه أن ما يؤكده العلم (البرهان والتجربة والمشاهدة) يؤكده الدين ولا تعارض بينهما. فهو يقول «من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة، بعد ساعة تعرف أنه يتحرك، وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار». فالغزالي يؤمن بالبرهان والتجربة والمشاهدة لتأكيد المحسوسات والعقليات، لذلك يهاجم بعض الاتجاهات العقائدية الذي «ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار علم ينسب إليهم، فأنكر جميع علومهم، وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع، فإذا قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه، لكان اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فازداد للفلسفة حبا وللإسلام بغضا، ولقد عظمت على الدين جناية من ظن أن الإسلام يُنصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية». ويضيف الغزالي ردا على التيار المذكور حجة جديدة «وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب فليس من شرطه أيضا إنكار ذلك العلم إلا في مسائل مبيّنة».
لا يختلف تصور الغزالي كثيرا من علاقة العلم بعلوم الدين عن رؤية الفارابي على رغم نقد الأول للثاني. فالإمام الغزالي دحض نظرية الفيض التي أخذ بها الفارابي لتفسير حركة الموجودات وانتقالها من الواحد إلى عالم المحسوسات وهي النظرية التي قال بها ابن سينا ورد الغزالي عليه أيضا.
يرى الفارابي أن الحكمة تعني أن تعقل الأشياء وما هو غير مدرك اليوم قد يدرك في الغد «وجاز أن يكون غير ذلك الذي يفهم على لفظه اليوم» و «مما لا ندري أي شيء هو مما يمكن أن يصير موجودا، فيحس أو يعقل ويصير مفهوما، ولكن ليس هو معقولا عندنا اليوم» و «يكون ما هو محال عندنا ممكنا أن لا يكون محالا».
إلى علاقة العلم بالدين اتفق الفلاسفة والفقهاء على قانون الحركة لكنهم اختلفوا على تفسير علتها. فالتضاد عند الفارابي يبدأ في الأرض في مسألة العلاقة بين المادة والصورة. فالأجسام المادية تبقى «ساعية إلى ما يتجوهر بها من الصورة» والصورة (الهيئة) هي مضادة (متناقضة) وفي الآن مشتركة. وتتمظهر عند الفارابي في صورتين واحدة بالقوة وأخرى بالفعل. وتبدأ الحركة عندما تحاول المادة أن تتحول إلى صورة أي أن تنتقل من القوة إلى الفعل. وينظم الفارابي تراتب الموجودات الناقصة من مادة أولا وصورة ثانيا والمركب بينهما من مادة وصورة وهو ما ينتج عنه حركة القوة وتحولها إلى فعل.
الآن والزمان
من فكرة «الآن» في حركة الزمان إلى فكرة «اللحظة» في حركة التاريخ عبرت الفلسفة إلى التاريخ وبدأ الانقسام على مفهوم الحكمة وتفسير التاريخ.
كيف بدأ الانقسام الفلسفي؟ وما هي نقطة البدء في التفكير الفلسفي؟
يلاحظ أن انطلاق الفلسفة بدأ من القرآن الكريم. واختلاف المذاهب الفلسفية كان أيضا على تفسير القرآن الكريم وتأويله، فهو الدافع للسؤال وهو أيضا موضوع الجواب. فالفلسفة في التاريخ الإسلامي سبقت الاحتكاك باليونان وأساس الفلسفة هو القرآن الكريم ومنه انطلق السؤال. وربط بدء الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية هو نوع من التأويل الظني الذي لا أساس تاريخيا لصحته. فالتفلسف سبق الاحتكاك ثم جاء الاحتكاك يزيد التفلسف تفلسفا.
انطلق التفلسف الإسلامي من السؤال عن صاحب الكتاب (القرآن الكريم). من هو سبحانه وتعالى؟ وما هي صفاته؟ وجاء ذلك في سياق تفسير الكتاب وتأويل آياته. بينما انطلقت الفلسفة اليونانية من سؤال من أنا؟
أدى اختلاف السؤال الإسلامي عند السؤال اليوناني إلى اختلاف المنطلقات. فالفلسفة اليونانية تبدأ من المحسوس إلى المجرد ومن الأدنى إلى الأعلى. بينما تبدأ الفلسفة الإسلامية من المجرد إلى المحسوس ومن الأعلى إلى الأدنى. فالكلي يسبق الجزئي في الفلسفة الإسلامية ويحتويه والمطلق يشمل المحدود ويقوده.
بعد السؤال الإسلامي الأول (من هو؟) جاء الثاني ما هي صفاته؟ وبدأ الجواب في تأويل الكتاب (القرآن الكريم) لاستنباط الجواب الأول من السؤال الأول (من هو؟) ثم انتقلت إلى الجواب الثاني عن السؤال الثاني (ما هي صفاته؟). ومن السؤال الأول كرت الأجوبة إلى الثاني. ومن الثاني انفتح الباب واسعا أمام مختلف الاتجاهات ويمكن ضبطها بقانون مشترك على تنوعها وتضادها.
عموما انقسمت الفلسفة إلى ثلاثة تيارات: الأول: ينزه الله من صفاته (فرق المعتزلة). الثاني: يجسم صفات الله (المجسمة). والثالث: يؤكد صفات الله من دون تنزيهه إلى مرتبة التجريد المطلق ومن دون التجسيم إلى مرتبة تنزيله إلى الموجودات المحسوسة (أهل السلف). وأدى اصطراع التيارات الثلاثة إلى تكوين ما يسمى اصطلاحا بالفلسفة الإسلامية وما تفرع عنها من علماء ومتكلمة وفقهاء ومدارس عقلية ونقلية وانتهى الصراع بانتصار التيار الثالث على الأول والثاني.
لعبت فكرة الزمان عند الفلاسفة (التاريخ عند المؤرخين) دور الناظم لتلك الاتجاهات. فالزمان هو الحركة. وهو ينقسم إلى قديم (لا سابق لوجوده) ومحدث (له علة لوجوده).
تقارب فكرة الزمان عند الفلاسفة مع فكرة التاريخ عند المؤرخين لا يعني تطابقهما. المعرفة التاريخية ارتبطت في بداياتها بالخلاف على الخلافة (من اجتماع السقيفة إلى موقعة صفين) بينما المعرفة الفلسفية انطلقت من سؤال «من هو؟» وطُرحت بحدة بعد الانقسام السياسي في صفين (موقعة التحكيم) وظهور الخوارج. فالسؤال التاريخي يتعلق بالسياسة والسؤال الفلسفي يتعلق بالفكر وكلاهما نتجا عن الضرورة والحاجة، وهما أنتجا المعرفة الإسلامية وحددا شكلها.
إلا أن أجوبة الفيلسوف (الحكيم) اختلفت عن أجوبة الإخباري والمحدث أو من جمع بين الخبر والحديث (المؤرخ). وأساس الاختلاف زمني وليس معرفيا، بسبب أسبقية استقلال المدارس التاريخية على المدارس الفلسفية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2240 - الخميس 23 أكتوبر 2008م الموافق 22 شوال 1429هـ