العدد 231 - الخميس 24 أبريل 2003م الموافق 21 صفر 1424هـ

المسلمون بين الاعتدال والتطرف

نستطيع أن نقول ان الأمة الإسلامية جسّدت مفهوم الأمة الوسط على طول تاريخها، أمة الاعتدال والتوازن. وبمقدار ما جسّدت من تفاعل مع نصوص القرآن وروح الإسلام. فإن النصوص ليست دائما حاكمة على سلوك الأفراد والمجتمعات إذ تظهر هناك ظواهر سلوكية واجتماعية تخالف النصوص، وبالتالي فهذه النصوص، لم تمنع ظهور اتجاهات وتصرفات هي في الجوهر مخالفة لروح الاعتدال والتوازن والوسطية والرفق في التعامل مع الدين والواقع بدأ بعضها منذ زمن الرسول محمد (ص). أخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس، أن رجلا أتى الرسول (ص)، وقال له: يا رسول الله، اني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوة، واني حرمت على نفسي اللحم. فنزلت الآية: «يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين، وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي انتم به مؤمنون» (المائدة: 88). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه أن هذه الآية نزلت في رهط من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال لهم: «لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني». روى ابن جرير أن الرسول جلس يوما فذكر الناس ثم قام ولم يزدهم على التخويف، فقال أناس من أصحابه ما حقنا ان لم نحدث عملا، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن حرم! فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك وأن يأكل بالنهار، وحرم بعضهم النساء فبلغ ذلك الرسول فقال: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم؟ إلا اني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني». وقال انس: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله يسألون عن عبادته فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها، قالوا: أين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله اني لأخشاكم لله واتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني». وفي تفسير القمي، نقلا عن الإمام الصادق (ع)، إن هذه الآية نزلت في الإمام علي وبلال وعثمان بن مظعون، إذ حلف الإمام علي ألا ينام بالليل أبدا وحلف بلال ألا يفطر بالنهار أبدا، وحلف عثمان بن مظعون ألا ينكح أبدا. فدخلت امرأة عثمان على عائشة، وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة: مالي أراك متعطلة؟ فقالت: ولمن أتزين؟ فوالله ما قربني زوجي منذ كذا وكذا فإنه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا. فلما دخل رسول الله (ص) أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات؟ إلا أني أنام الليل وأنكح وأفطر بالنهار، فمن رغب عن سنتي فليس مني». وفي المجمع، قال المفسرون: جلس رسول الله (ص) يوما فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وهم علي وأبو بكر وعبدالله بن مسعود وأبوذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة وعبدالله بن عمر والمقداد بن الأسود الكندي وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، وهمّ بعضهم أن يجبّ مذاكيره. فبلغ رسول الله (ص) فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية واسمها حولاء وكانت عطارة: أحقا ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله (ص) وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يارسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك، فانصرف رسول الله (ص) فلما دخل عثمان أخبرته بذلك. فأتى رسول الله (ص) هو وأصحابه فقال لهم رسول الله (ص): «ألم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟» قالوا: بلى يارسول الله وما أردنا إلا الخير، فقال رسول الله (ص): «إني لم أؤمر بذلك»، ثم قال: «إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني». ثم جمع الناس وخطبهم، وقال: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا، أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا، واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع». وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة: إن ناسا من أصحاب النبي (ص) سألوا أزواج النبي عن عمله في السر فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي (ص) فقال: «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني». ولم يكن ذلك بالشيء الخطير، لكن الأمر ذهب إلى مدى أبعد حين ظهرت فرقة الخوارج، الذين انشقوا على الإمام علي (ع)، وانكروا ضرورة السلطة والإمامة والامرة، وقالوا «لا حكم إلا لله» فرد عليهم الإمام علي بالقول إن تلك «كلمة حق أريد بها باطل، إذ لابد للناس من أمير بر أو فاجر». وتطور عندهم هذا الرأي ليبلغ ذروته على يد احدى فرقهم وهي النجدات الذين اجمعوا على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط، وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، على رغم أنهم قالوا أيضا، انه ان رأى الناس ان ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه، جاز لهم ذلك. وتعاظمت فرص التطرف في الآراء والممارسات مع تفاقم الخلافات العقائدية والفقهية والكلامية بين المسلمين، وغياب ثقافة الأحرار وقبول الرأي الآخر، الأمر الذي كان يولد فتنا اجتماعية بين جماعات المجتمع الإسلامي المختلفة. في سنة 256هـ/870م اختلف قوم من الخوارج على حول توبة الخاطئ هل تقبل أم لا، فقال عبيدة العمروي انها لا تقبل، في حين قال مساور انها تقبل، فتحارب الطرفان، «واقتتلوا أشد قتال» قرب الموصل في جمادى الأولى سنة 207هـ/822م. في العام 201هـ/816م تجردت في بغداد جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تزعمهم خالد الدريوش ثم سهل بن سلامة، الذي دعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بالكتاب والسنة، وعلق مصحفا في عنقه، وأمر أهل محلته ونهاهم فقبلوا منه ودعا الناس إلى ذلك، فأتاه خلق عظيم فبايعوه على ذلك، «وعلى القتال معه لمن خالفه». لقوله: «أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائنا من كان سلطانا أو غيره، والحق قائم في الناس أجمعين، فمن بايعني على هذا قبلته ومن خالفني قاتلته». وشهد العام 218هـ/833م نموذجا صارخا لتطرف الدولة في الرأي في الأمر الذي أصدر الخليفة العباسي المأمون بامتحان العلماء واختبار رأيهم في قصة خلق القرآن واجباهم على أن القرآن مخلوق محدث وغير قديم.

وفي سنة 323هـ عظم أمر الحنابلة في بغداد وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون من دور القواد والعامة، وأن وجدوا نبيذا أراقوه وأن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء واعترضوا البيع والشراء ومشي الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو؟ فإن أخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فارهجوا بغداد. في سنة 345هـ/956م وقعت الفتنة باصبهان بين أهلها وبين أهل قم بسبب المذاهب وقتل بينهم قتلى، ونهب أهل اصبهان أموال التجار من أهل قم.

وكانت عوامل التطرف في هذه الفترات التاريخية تكمن في سوء الفهم وتخلفه، وفي الظلم والاستبداد الذي مارسته السلطات الحاكمة، وسيادة ثقافة القتال مقابل غياب ثقافة الحوار في المجتمع.

التطرف في العصر الحديث، أي بعد سقوط الدولة العثمانية

أدخل العلمانيون العرب من قوميين وشيوعيين وليبراليين وغيرهم التطرف إلى الحياة السياسية والاجتماعية في هذه البلدان اما من خلال ممارساتهم السياسية بوصفهم قوى سياسية ذات تأثير في المجتمع، سواء على مستوى العلاقات فيما بينهم، أو على مستوى موقفهم من الدين بصورة عامة، ومن الحركة الإسلامية التي نشأت في غالبية الأحيان في ظل الحكومات العلمانية المتسلطة بصورة خاصة.

وقد تمثل هذا في وقت مبكر بقيام الحكومة العراقية بنفي علماء الدين عن العراق ثم حظر العمل السياسي عليهم، مقابل الموافقة على عودتهم إليه. قال المؤرخ عبدالرزاق الحسني: «ولما شعرت الوزارة أن العالم الكاظمي الكبير الشيخ محمد مهدي الخالصي هو الذي يرأس الهيئات القائمة بمقاطعة الانتخابات والضغط على الدوائر العليا لتخفيف التدخل البريطاني في شئون العراق الداخلية قررت اخراجه من العراق مهما كلفها الأمر... وقد أخرج الإمام وصحبه إلى إيران في يوم 28 يونيو/ حزيران 1923م».

وفي مصر دبرت حادثة اغتيال الإمام حسن البنا.

وفي مقابل ذلك، بدأت الحركة الإسلامية المعاصرة في العالم الإسلامي معتدلة، على يد الإمام حسن البنا في مصر، والإمام النائيني والشيخ كاشف الغطاء في العراق، وغيرهما من اعلام الدين، لكن العلمانية الحاكمة التي كانت متطرفة في موقفها من الدين، وفي موقفها من علمائه حين مارست النفي أو الاعتقال أو الإعدام، فتحت الباب أمام نشوء التيارات المتطرفة الإسلامية كرد فعل على التطرف العلماني.

يقول الإمام حسن البنا: «إن الإخوان المسلمين يجيزون الخلاف ويكرهون التعصب للرأي ويحاولون الوصول إلى الحق، ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل اللين والحب».

وجعل من خصائص الإخوان: «البعد عن مواطن الخلاف، والتدرج في الخطوات»، وقال: «وليس العيب في الخلاف، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم». (المؤتمر الدوري الخامس في 1357هـ/1938م).

«أما وسائلنا العامة فالاقناع ونشر الدعوة بكل وسائل النشر... ثم النضل الدستوري... أما سوى ذلك من الوسائل فلن نلجأ إليها إلا مكرهين، ولن نستخدمها إلا مضطرين»... (194) وقال في مناسبة سابقة: «إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها»... (المؤتمر الخامس)، وأكد في العام 1942م أن القوة ليست من وسائل الاخوان المسلمين على اعتبار أن «الدعوة الحقة انما تخاطب الأرواح أولا وتناجي القلوب... ومحال أن تثبت بالعصا»، وفي العام 1945م أكد أن وسائل الإخوان هي «نشر الدعوة للتبليغ وتربية النفوس على هذه التعاليم عمليا للتكوين ووضع المناهج الصالحة في شئون الحياة للتوجيه والتقدم إلى الأئمة والهيئات النيابية والتنفيذية والدولية للتنفيذ»...

أما النائيني فقد ألف كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» ودعا فيه إلى الديمقراطية وأدان الاستبداد الديني والاستبداد السياسي معا

العدد 231 - الخميس 24 أبريل 2003م الموافق 21 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً