ما من مسلم ملتزم بإسلامه، صادق في دعواه إلا وله من دينه دوافع تجعله يحب العروبة، ويسعى إلى حماية بيضتها، وصيانة حماها. فعلاقة الاسلام بالعروبة ليست كعلاقة اي دين بأية قومية.

نزل القرآن عربيا، واختير نبي الاسلام عربيا، يقول رب العزة «وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين» (الشعراء 191 - 195). فامتدت بذلك العروبة من قلب الجزيرة العربية حتى بلغت طرفي المعمورة، واستظلت به أمم وشعوب لم تكن تدري ما الكتاب ولا الايمان، كما اتسع بذلك معناها، وانتقل الدم العربي الصافي إلى عروق كريمة امتزج بها حتى حوّل كل شيء يتصل بحياتها إلى عربي خالص. وهكذا اصبحت العروبة بالذكر الحكيم، عن طريق النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أصبحت لسان الاسلام، ووعاء ثقافته. والعرب هم حملة رسالته الاولون، الذين بلغّوا كلمة الاسلام في وقت كانت فيه البشرية في امس الحاجة إليه، وهم اول من شرفهم الله تعالى بحمل القواطع اللوامع للذب عن هذا الدين الحنيف. العرب محبتهم من علامات الايمان، وبغضهم يؤدي إلى الحرمان. وأرض العرب شهدت مولد النور، ومنها بدأت ملحمة الاسلام، وهي ارض المقدسات.

العروبة قلب الاسلام، وهل يحيا الجسد بلا قلب، ولكن... هل القلب معنى بلا جسد يحتويه ويحميه؟ فالاسلام هو الذي خلّد العربية حينما نزل بها كتابه العظيم، وهو الذي علّم العرب من جهالة، وهداهم من ضلالة، ووحدهم من فرقة، وألّف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله إخوانا، والقومية العربية الحقّة تتخذ من الاخوة الاسلامية سندا وعونا. والاسلام جاء لصلاح البشر جميعا، وهو عقائد بتقيد بها المسلمون جميعا، وأخلاق ومعاملات وأحكام تعم الناس أجمعين.

لا يمكن الفصل بين العروبة والاسلام، فإن الرابطة بينهما رابطة طبيعية، كالرابطة بين نظام الاجرام السماوية وقوة الجاذنية! هكذا نفهم العلاقة بين العروبة والاسلام: تكامل لا تناقض.

إذن، لم هذه العدواة التي نراها ونلمسها بين تيارات اسلامية، وأخرى عروبية، ولِمَ هذا الفصام النكد بين الطرفين؟ كان الصراع الفكري مستعرا بين التيارين الاسلامي والقومي العربي طوال النصف الثاني من القرن الماضي. هذا الصراع ذكته وتسببت فيه اطراف ثلاثة: بعض الإسلاميين، وبعض العروبيين، وبعض الحكام العرب! هناك فئات من الاسلاميين تعاني من الفقر الشديد في فقه التعامل مع الآخر، أي آخر! وإن كان من داخل الصف الاسلامي، كما تتبنى اطروحات في غاية التطرف، فيمنعها ذلك من تحمل مشقة الاقتراب من الآخرين لاستكشاف الارضيات المشتركة، والبحث عن العوامل الموحدة، فأدى بهم ذلك إلى فقدان حاسة التمييز بين التيارات المتباينة للفكر العروبي المطروحة على الساحة، وبالتالي إهمال الموقف الوسطي الموافق للشرع الحنيف، والذي وقفه عمالقة الفكر الاسلامي المعاصر.

فعلى سبيل المثال، يقول رائد الصحوة الاسلامية في الجزائر، الشيخ عبدالحميد بن باديس: «إن الجزائر بلد عربي، ومن ذا الذي يفكر في انكار هذه الحقيقة وهي ارض إسلامية اصيلة، وذلك حق ايضا، ومهما يكن من إرادة الامبريالية في الماضي والحاضر، ومهما يكن من قوة حرابها، فإن هذه الظاهرة تظل صادقة تمام الصدق...» (د. محمود قاسم، الامام بن باديس ص 13). ويقول الإمام حسن البنا مؤسس كبرى الحركات الاسلامية في العصر الحديث «... ومن هنا كانت وحدة العرب امرا لابد منه لإعادة مجد الاسلام واقامة دولته واعزاز سلطانه. ومن هنا وجب على كل مسلم ان يعمل لاحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الاخوان المسلمين من الوحدة العربية» (رسالة المؤتمر الخامس). ويقول: «والعروبة، أو الجامعة العربية، لها في دعوتنا كذلك مكانها البارز، وحظها الوافر، فالعرب هم امة الاسلام وشعبه المخيّر، وبحق ما قاله (ص): (إذا ذل العرب ذل الاسلام). ولم ينهض الاسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها، وإن كل شبر ارض في وطن عربي نعتبره من صميم ارضنا ومن لباب وطننا». (رسالة دعوتنا في طور جديد). أما الداعية الشيخ محمد الغزالي فيقول: «ولما بعث محمد عليه الصلاة والسلام بين العرب، ولما صاغ الاسلام هذه الاشتات من البشر صياغته المحكمة، بدأت الامة العربية تظهر في التاريخ، وأخذت دائرتها تنداح قرنا بعد قرن، وجذورها تعمق حينا بعد حين، حتى اصبحت الامة العربية - بهذه الرسالة التي حملتها - تمثل غاية من اعرق الغايات...». (محمد الغزالي، حقيقة القومية العربية ص47).

أما الطرف الثاني، الذي لعب دورا رئيسيا في دق الاسفين بين الاسلاميين والعروبيين، فهم بعض منظري وقادة الفكر العروبي، الذين اتخذوا موقفا عدائيا، صريحا او مغلّفا، من الدين الاسلامي الحنيف، واعتبروا العروبة بديلا عن السلام. ونعوذ بالله من شرور الدعيّ الذي كتب يوما في نشرة رسمية في دولة عربية مسلمة يقول: آمنت بالبعث ربا لا شريك له

وبالعروبة دينا ما له ثاني!!!

واسمع ميشيل عفلق وهو يقارن بين الاسلام وغيره من مراحل التاريخ العربي، فيسوي بين الاسلام، وبين جاهلية العرب وكفر حمورابي. يقول عفلق: «هذه الامة التي افصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة افصاحا متعددا متنوعا، في تشريع حمورابي، وشعر الجاهلية، ودين محمد (!!) وثقافة عصر المأمون. شعور واحد يهزها في مختلف الازمان، ولها هدف واحد على رغم فترات الانقطاع والانحراف». (ميشيل عفلق، في سبيل البعث ص 77).

ويذكر ايضا، ان جمهور الاسلاميين ينظرون بعين الشك والريبة، في حقيقة ان رواد الدعوة الى القومية العربية في بدايات القرن الميلادي الماضي كانوا جميعهم تقريبا من النصارى الذين عادوا الدولة العثمانية، وارتبطوا بروابط روحية وثقافية وطيدة بالمستعمر الفرنسي او الانجليزي.

فهؤلاء لم ينظروا إلى العروبة باعتبارها تستظل بظلال الاسلام، بل باعتبارها رابطة بديلة عن الاسلام.أما الطرف الثالث الذي تحمل وزر هذا الجفاء، بل العداوة والبغضاء بين الاسلام والعروبة، فهم بعض حكام الدول العربية، الذين ارتكبوا مجازر رهيبة بحق الاسلاميين في بلدانهم، راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والايتام والارامل. لقد ادت هذه السياسة الخرقاء التي اتبعها حكام الدول الثلاث الكبرى التي رفعت راية القومية العربية، إلى حدوث رد فعل عنيف في صفوف الاسلاميين، مازالت آثاره باقية عند الكثيرين منهم.

هذه هي الاطراف الثلاثة التي ساهمت في إحداث الفصام النكد بين الاسلاميين والعروبة. ولكن لعل عقد المؤتمرات المشتركة بين الجانبين في السنوات الاخيرة سينتج عنه خير كثير. إن حجم المؤامرات التي تحاك ضد ديار العرب والمسلمين اليوم لتدعونا إلى رص الصفوف وتوحيد الجهود. فالخطب جلل، والمصاب عظيم