بدأ تاريخ جديد في العراق. راحت تلفزيونات الغرب تعرض صور(تحرير العراق) وركزت على هدم تماثيل الدكتاتور بينما راح المواطنون يمثلون بصوره وردد بعضهم أمام الكاميرات ما كانوا يقولونه سابقا لصدام حسين: بالروح، بالدم، نفديك يا بوش. في كل مكان استغل الآلاف غياب الشرطة وفلول الحكم وقاموا بنهب قصور ومساكن الحكم والوزارات وكذلك المصارف ومحلات تجارية والسفارة الألمانية وكانوا يبتسمون للكاميرات كأنهم يتباهون عند الحصول على كرسي أو سجادة من قصر أو وزارة والاحتفاظ بها للذكرى.
لكن تلفزيونات العالم العربي اهتمت بعرض صور أكثر مأسوية وتحدثت عن (احتلال العراق) وراحت تكشف الوجه المقيت للحرب، صور الجثث المتراكمة في بهو مستشفى ومصابين وخصوصا الصبي علي اسماعيل عباس الذي فقد يديه وتعرض جسمه للاحتراق وقد اصبح رمزا لمعاناة المدنيين، عند ملايين العرب. حتى نهاية الأسبوع الماضي لم يكن العراق قد خضع بالكامل لسيطرة القوة المنتصرة. ما زالت فرق خاصة تبحث عن أسلحة الدمار الشامل، السبب الرئيسي للحرب، وجعلت من صدام خطرا على السلام العالمي. ستظل الولايات المتحدة مدينة للعالم بتفسير حتى تتوصل إلى مكان أسلحة الدمار الشامل.
ساهم هذا الانتصار السريع للاميركيين والبريطانيين في زيادة نفوذ الصقور في واشنطن وزاد من حماسهم.
هدد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد سورية واتهمها بمنح المأوى للرئيس العراقي وأفراد عائلته وكذلك مسئولين كبار. في الغضون تزداد تصريحات التهديد تجاه دمشق كما بدأ مسلسل التهديدات ضد العراق. يستخدم الاميركيون الأسلوب نفسه فاتهموا سورية بإيواء قادة (القاعدة). وقال ديبلوماسي في برلين: الواضح أن واشنطن تشعر بالفراغ الذي لحق في خفض عدد دول محور الأشرار على حد تعبيره ويبدو أنها تريد التعويض عن غياب العراق بضم سورية للمحور الذي يضم إيران وكوريا الشمالية. كل ما جرى في هذه الحرب كان عكس ما كان يخشاه الكثيرون. لم يجر استخدام أسلحة الدمار الشامل، ولم يجر تدمير آبار النفط وتعبث مأساة بيئية في المنطقة بل فوجئ المراقبون كيف قام كثيرون بمساعدة الغزاة في دخول بغداد. ربما اللغز الأكبر يدور حول عدم قيام معركة بغداد.
هناك ثلاثة أسباب وراء انتصار التحالف:
ــ التفوق العسكري العالي للاميركيين.
ــ قدرة القيادة العسكرية على تنفيذ العمليات العسكرية.
ــ ضعف الجيش العراقي.
المؤكد أن الانتصار العسكري الذي حققته الولايات المتحدة على دولة ضعيفة في «العالم الثالث» كان الخطوة السهلة في الحرب، والآن حان وقت العمل بالخطوة الصعبة وهي إعادة التعمير وبناء نظام سياسي جديد. في البوسنة وكوسوفو وأفغانستان خاضت الولايات المتحدة الحرب لكنها حرصت على البقاء بعيدا عند وضع خطط ما بعد الحرب في هذه المناطق وتركت الدفة للأمم المتحدة. لكن الوضع يختلف هذه المرة لأن العراق بلد منتج للنفط، ويبدو أن الولايات المتحدة وضعت مسبقا خطط مرحلة «ما بعد الحرب». مثلما كانت الدفة بيد القوة العظمى خلال الحرب، ستبقى بيدها بعد الحرب. وسرعان ما عللت مستشارة البيت الأبيض للأمن القومي كوندليزا رايس السبب حين قالت إن الولايات المتحدة ضحت بالدم لتحرير العراق وإنه لا ينبغي أن يطالبها أحد بالتخلي عن دور القيادة.
كما كان الوضع في الحرب، ستواصل وزارة الدفاع الاميركية متابعة الأمور في العراق ويبدو أن بوش حسم المنافسة بين رامسفيلد ووزير الخارجية كولن باول، لصالح الأول الذي لا يرى ضرورة لمشاركة الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسي في صنع مستقبل العراق وأن هذا من حق الولايات المتحدة. بود البيت الأبيض أن ينتقل الجنرال تومي فرانكس إلى بغداد والتخلي عن وظيفة قائد الحرب والعمل إلى جانب الجنرال المتقاعد جاي غارنر، والإيعاز بمهمة إعادة التعمير إلى الوكالة الاميركية للمساعدات الإنمائيةUS Aid . كما كان متوقعا أوكلت الولايات المتحدة لشركات اميركية كبيرة بدء العمل في توزيع مساعدات إنسانية قيمتها 2,4 مليار دولار. أبرز رمز للتحول في العراق، تغيير الكتب الدراسية بدءا من سبتمبر/ايلول المقبل ثم سيجري العمل في وضع دستور جديد وإجراء انتخابات حرة.
الباب سيظل موصدا بوجه الولايات المتحدة عند العمل بهذه الخطط لكن باب المساهمة في تقديم مساعدات إنسانية سيظل مشرعا أمام المؤسسات التابعة لها مثل اليونيسيف وبرنامج التغذية العالمي ومفوضية اللاجئين. لم يحسب الإستراتيجيون في واشنطن أي حساب للهيئة الدولية حين وضعوا الخطط الرئيسية لمرحلة ما بعد الحرب. مثلما تم تجاهل دور لألمانيا وفرنسا وروسيا (الثلاثي المناهض للحرب). مثلما حصل انقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا بسبب الحرب سيحصل انقسام بين الطرفين في المرحلة التالية لها. ويعول الأوروبيون كثيرا على رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير لإصلاح الأمور بين اوروبا والولايات المتحدة ويبدو أنه حقق بعض النجاح في قمة بلفاست حين أقنع الرئيس الاميركي بإدماج الأمم المتحدة في عملية إعادة بناء العراق دون أن يجري تحديد مهمتها. وكان واضحا في قمة سان بطرسبرغ أن فرنسا تصر على تولي الأمم المتحدة دورا رئيسيا في العراق للحد من نفوذ واشنطن في المنطقة. كما فوجئ بوتين وفريقه السياسي والعسكري بالسقطة السريعة لنظام صدام حسين، ما دفع الرئيس الروسي إلى التأكيد على مواصلة التعاون الروسي الاميركي. كما لم تسهم الزيارة التي قامت بها رايس إلى موسكو في رأب الصدع الذي نشأ بين البلدين بسبب انضمام روسيا للمحور الألماني الفرنسي وتشكيل ثلاثي مناهض لأميركا في أوروبا.
كان مجلس الأمن ساحة للمشادات الديبلوماسية وسيتحول قريبا إلى ساحة للمنافسة على المصالح، فالولايات المتحدة تريد الحصول على اعتراف دولي بالنظام الجديد في العراق. يتكهن المراقبون مسبقا بصدام مبرمج بين واشنطن من جهة وروسيا وفرنسا من جهة أخرى. كذلك الأمر أوضح الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان أنه يشترط تقديم قروض للعراق من منظمة «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي»، الحصول أولا على اعتراف رسمي من الأمم المتحدة. هناك سبب آخر وراء مسعى واشنطن إلى حصر نفوذ الأمم المتحدة قدر الإمكان. فخلال السنوات السابقة كانت الهيئة الدولية تشرف على إدارة الأمور المالية للعراق ومنذ فرض الحصار على هذا البلد كانت عائدات النفط تتدفق على أرصدة مجمدة يبلغ حجمها اليوم 8 مليارات دولار إضافة إلى 7 ملايين برميل من النفط موجودة في ميناء جيهان التركي بانتظار تسلمها. تم وقف العمل ببرنامج «النفط مقابل الغذاء» وتقول مصادر الأمم المتحدة إنه لا يجوز لواشنطن من ناحية قانونية التصرف بأموال العراق ويتهدد نشوء نزاع جديد بين واشنطن والهيئة الدولية. ويقابل كثيرون الخطوات التي قامت بها واشنطن حتى الآن، بريبة وشك. فسيعهد إلى مدير شركة النفط(شل) فيليب كارول الإشراف على إعادة تأهيل صناعة النفط في العراق ويقول المنتقدون: يريد الطرف المنتصر الفوز بالغنيمة كلها لنفسه
العدد 230 - الأربعاء 23 أبريل 2003م الموافق 20 صفر 1424هـ