تستمر الولايات المتحدة في تغيير العالم، وذلك كلما تحركت آلتها العسكرية. آلة جبارة، طيعة، لينة، تخطت الاعداء في نوعيتها، كما تخطت الاصدقاء. مجربة هي، ومدعومة بلوجستية لا تنضب. والخطير في الأمر، أن هذه الآلة، راحت تحل مكان مصادر القوة الاخرى، والمتمثلة في السياسة، الاقتصاد. فما تريده اميركا، تفرضه، وإلا افلتت عنان المدافع والقنابل الذكية. من هنا سأل هنري كسينجر، عما إذا كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى سياسة خارجية، وهي في ظل هذه القوة.
وراح العالم يحاول التنبؤ بمتى، وكيف ستستعمل اميركا هذه القوة؟ وتكمن الصعوبة في معرفة هذا العالم لماهية المصالح الاميركية الحيوية، وكيف ترسم وتفسر. ومتى تكون اميركا مستعدة لاستعمال القوة لتحقيق هذه الاهداف.
يقول الضابط الاميركي جون بويد عن الاستراتيجية: «إن الاستراتيجية، هي ان تربط نفسك بأكثر عدد ممكن من مراكز القوى. وتعزل العدو قدر الامكان عن هذه المراكز». ربط الرئيس صدام حسين نفسه بكل مراكز القوى، الاقليمية منها، والدولية. وانعزل بوش تماما عن هذه المراكز. لكن النتيجة كانت، ذهاب صدام، وانتصار بوش. ويمكننا ان نعزو السبب هنا، إلى ان بوش ليس بحاجة حاليا الى هذا العالم المحيط به.
شكل الانتصار الاميركي السريع جدا في العراق، نقطة تحول في المحيط العربي كما في المحيط الدولي. فالعالم راقب اميركا وهي تخوض الحرب، وأمل البعض منهم ان تغرق في المستنقع لفترة طويلة. لكن اميركا خرجت بسرعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحروب البشرية. لذلك اضحى من الواجب ان يدرس العالم ما حدث بدقة، لاستخلاص العبر، وإيجاد الوسائل اللازمة للتعامل مع هذه المتغيرات. فمرحلة ما بعد الحرب، هي ليست مرحلة ما قبلها. وإلا فما معنى اتصال الرئيس شيراك بالرئيس بوش ليقول له انه رجل براغماتي؟ لقد تغيرت قوانين اللعبة، واصبح واضحا للعالم وللمحيط العربي، ان لأميركا استراتيجية بدأت تظهر كلما مر الوقت. فأفغانستان كانت التجربة والمدماك الاول، واتى العراق ليظهر الاهداف الاميركية بوضوح. فقد خرجت اميركا من العراق وهي مرتاحة غير منهكة، على الصعيد العسكري، كما على الصعيد السياسي. كذلك الامر، بدا الرئيس بوش اكثر ثقة في الداخل الاميركي، وخصوصا انه كان قد اوفى بوعوده في الدفاع عن الأمن الاميركي. وإلا فما معنى الانتقال السريع من العراق للضغط على سورية؟
كيف يتغيّر العالم بعد العراق؟
عندما قررت اميركا تغيير العراق، انقسم العالم حول الموضوع. منهم من مانع حتى النهاية، ومنهم من انصاع بالعلن او بالسر.
غيّرت اميركا العراق، فتغير الوضع الاقليمي المحيط به. وبدأت الدول الكبرى تسعى الى حجز دور لها. وإلا فماذا يفسر هذه الحركة السياسية الاقليمية والعالمية؟ هذا مع التذكير بان لب هذه الحركة السياسية يتناول العراق ومستقبله. فهل العراق هو المعني، او ما انتجت العملية عليه من تأثيرات؟ بالتأكيد، النتائج المرتقبة على النظام العالمي لمرحلة ما بعد العراق.
ما ظواهر هذه التأثيرات؟
- اجتماع وزراء خارجية الدول المحيطة بالعراق، بالاضافة إلى مصر. الهدف من هذا الاجتماع العمل على تنسيق الجهود بسبب المتغيرات. فالكل قد وعى ان ميازين القوى في المنطقة كانت قد نسفت بعد النصر الاميركي السريع. والخطر في الامر، ان النسر الاميركي باق في المنطقة إلى اجل غير معروف. ولا بد من التعاون بين هذه الدول كي لا تؤخذ منفردة واحدة تلو الاخرى. هذا مع التذكير بان الخلافات كبيرة بين المجتمعين. وقد لا يتعدى الهدف المشترك لهذه الدول امرين طبيعيين: الاول، تنصيب حكومة عراقية بسرعة كي تضبط الوضع، فلا ينزلق العراق إلى حرب اهلية. وخصوصا ان كل الافرقاء في الداخل العراقي مختلفون حاليا على شكل ولون السلطة السياسية المستقبلية. الهدف الثاني، العمل على ان تنسحب اميركا بسرعة من العراق. هذا عدا عن السعي إلى الضغط على اميركا بضرورة العمل على إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. مع الاضافة الى ان المجتمعين كانوا قد اطلقوا على الوجود الاميركي كلمة « محتل» في الوقت الذي تستضيف فيه غالبيتها القوات الاميركية.
- التركيز الاوروبي المستمر على استعادة الامم المتحدة لدورها انطلاقا من العراق. ففرنسا، روسيا، المانيا والصين، تريد استعادة النسر الاميركي إلى مجلس الأمن، إذ القوى متعادلة. لكل واحد منهم صوت واحد، وحق للفيتو. حتى ان اوروبا ولرفع العقوبات عن العراق راحت تطالب بقرار لمجلس الأمن يرتكز على نتيجة المفتشين. اما في خارج المجلس فالديناصور الاميركي مسيطر بشكل تام. لكن الاكيد ان اميركا وبسبب هذا النصر، وبسبب شعورها انها ليست بحاجة إلى احد، ستستمر في التفرد بحسب ما تراه مناسبا.
- دخلت الصين لاول مرة في الموضوع الكوري الشمالي بهدف ايجاد حل له. ويعتبر هذا الامر احد اهم نتائج الحرب الاميركية على العراق. فقد استفزت كوريا الشمالية اميركا عدّة مرات، محاولة للحصول منها على ضمانات امينة. فقد انسحبت كوريا من معاهدة الحد من انتشار اسلحة الدمار الشامل. وطردت مراقبي الامم المتحدة. وجربت صواريخ فوق اليابان. وهددت بانها ستنسحب من اتفاق وقف النار التي وقعت العام 1952. وهي ايضا على لائحة محور الشر الاميركية. وهي متهمة بانها تبيع تكنولوجيا الصواريخ البالستية إلى الدول المارقة. ظلت اميركا على رغم التصعيد الكوري هادئة، معتبرة ان هذه المسألة تخصها، كما تخص الدول الاقليمية المحيطة بكوريا. لذلك لم تقدم اي تنازلات. بعد الحرب السريعة في العراق، تقدمت الصين لايجاد حل، وتراجعت لهجة كوريا الشمالية العدائية. فالصين تخاف من ان تكون كوريا الهدف الثاني بعد العراق. وهي تخاف من ان يصبح الاميركيون على حدودها مباشرة. وهي مطمئنة على ان كوريا الجنوبية تشكل حاجزا حتى الآن. وهي تخاف من ان يتدهور الوضع في كوريا، لانه سيؤثر مباشرة عليها وعلى نموها الاقتصادي، في الوقت الذي تسعى فيه الى التخلص من تأثير الفيروس الجديد. لكن الامر يبقى في طريقه الى التنفيذ. هل سيكون هناك جهاز خاص لمراقبة مشروع كوريا النووي؟ هل ستعود الامم المتحدة للعب دورها السابق؟ ماذا ستكون مكافأة الصين إذا ما استطاعت حل المشكلة؟ هل ستتأثر كل من اليابان وكوريا الجنوبية، وخصوصا انهما بقيتا خارج إطار الحل؟
- إذا كانت الحرب العراقية غيرت العالم، فهي حتما مسخت صورة ودور الامم المتحدة التي نعرفها. فهل اصبح من اللازم تغييرها؟ بالتأكيد، فالمرحلة المقبلة تتطلب آلية جديدة لحل مشكلات العالم والحفاظ على السلم فيه. طالبت اليابان في هذا الاطار ان تكون عضوا في مجلس الامن. حاز هذا الطلب موافقة اميركا. وهناك فعلا لائحة من الدول التي تطالب بالعضوية نفسها، الهند، المانيا، البرازيل، جنوب افريقيا، أندونيسيا، باكستان، المكسيك، نيجيريا ومصر. لكن عملية التغيير دونها مصاعب، وهي تستلزم على الأقل تغيير شرعة وتنظيم الامم المتحدة.
- بعد الانتهاء من العراق، والانتقال إلى الهجوم على سورية برز الشعار الآتي: إذا كان لديك اسلحة دمار شامل معلنة. إذا كنت مع الرئيس بوش. إذا كنت تحارب الارهاب حسب التوصيف الاميركي. يمكنك الاسترخاء لانك لست مقصودا بالحروب الاميركية. والعكس قد يعني انك مستهدف ويجب ان تبقى على حذرك. تندرج كوريا الشمالية، ايران، وكل الدول العربية في الصنف المستهدف. وتشذ «إسرائيل» عن كل اللوائح، فالرئيس بوش هو صديق شارون، ويقول عنه انه رجل سلام. تبقى باكستان في خانة مقلقة. فهي كانت مصدر دعم القاعدة، ولا تزال مرتعا وملاذا لها. وإلا فما معنى القبض على الكثير من قادة القاعدة داخل الأرض الباكستانية؟ يقلق الصقور في الادارة الاميركية من ثبات حكم الرئيس مشرف. فهو مهدد بالانهيار بحسب اقوالهم. والجيش الباكستاني، يعتبر متشددا، كما هو الطالبان والقاعدة. باختصار تعتبر باكستان مصدر قلق مستقبلي، وخصوصا في البعد النووي. حتى ان البعض من المحللين الاميركيين، كان قد اقترح فرط عقد هذه الدولة، نزع النووي منها، وتكلف الهند الديمقراطية بأمن المنطقة ككل. لذلك نعتقد انه وبعد ان تنتهي اميركا من ترتيب الوضع الاقليمي حول العراق، ستلتفت إلى باكستان وخصوصا في بعدها النووي. فبحسب العقلية والاستراتيجية التي تتحكم حاليا بالادارة الاميركية، لا يمكن لباكستان ان تستمر في هذه الفوضى من دون امن على النووي الخاص بها. لذلك قد نرى في المرحلة المتوسطة المدى مشروعات اميركية للنووي الباكستاني. فلننتظر
العدد 229 - الثلثاء 22 أبريل 2003م الموافق 19 صفر 1424هـ