العدد 229 - الثلثاء 22 أبريل 2003م الموافق 19 صفر 1424هـ

المقاومة المدنية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المقاومة المدنية في العراق (مسيرات، اعتصامات، احتجاجات، مظاهرات) كانت متوقعة. إلا أن قيامها بهذه السرعة مسألة لم تكن متوقعة. عادة تبدأ المواجهات المدنية بعد مرور شهور على الاحتلال أو العدوان وليس بعد أيام. فالشعب العراقي خرج بسرعة من الأسر، وكان خروجه أسرع من كل التوقعات، الأمر الذي أذهل معظم المراقبين ووضع قوات الاجتياح في موقف صعب.

المقاومة المدنية بدأت في العراق، وبقي على القوى الفاعلة ان تنظم صفوفها وتوحد شعاراتها وتحدد بدقة مهماتها المرحلية. وتنظيم القوى الآن مسألة صعبة نظرا إلى تشتت مراكز القرار وتوزعها على أكثر من محيط وجهة... إلا أن ضغوط الظروف تتطلب الإسراع في توحيد الجهود حتى لا تفلت الأمور وتتشرذم الأهداف على مراكز القرار.

المقاومة المدنية بدأت وهذا أول الغيث. فما حصل في العراق كارثة... والكارثة الأعظم هو ألا نستفيد من الدرس وتذهب الفرص وتندثر تحت ركام الخراب والدمار.

هناك الكثير من الأمور لابد من استدراكها والعمل على ترتيبها حتى لا تتحول المقاومة المدنية الى نوع من الاحتجاج العشوائي الذي يعتمد سياسة ردة الفعل لا الفعل.

هناك الكثير من المطالب العراقية منها الرئيسي ومنها الثانوي ومنها ما لا يتطلب التأجيل. حتى الآن تنحصر الاحتجاجات في أطر مطلبية ضيقة (مياه، كهرباء، هاتف، مستشفيات، مدارس، تموين، فوضى أمنية، أدوية وامصال، مفقودين)، ولكنها في مجموعها تشكل قوة ضغط مدنية على قوات الاحتلال التي عصفت بالمدن والقرى وسرقت ما سرقته وسهلت لقوى النهب والحرق ان تتكفل بالباقي لتغطية السرقات الكبرى.

هناك مقاومة مدنية عفوية وقوات الاجتياح مربكة لا تعرف من معها ومن ضدها، وكيف تتعاطى مع مظاهر الاحتجاج والنقمة التي بدأت تسود المجتمع العراقي في مختلف قطاعاته. العاجل الآن هو العمل على ضبط الاحتجاج وتنظيمه وتوحيد صفوفه وشعاراته وأهدافه حتى لا تتوزع المقاومة المدنية على أكثر من تيار، وتأخذ مراكز القوى بانتزاع المكاسب وإعادة توظيفها في اتجاهات مغايرة لتلك التي يدفع الشارع العراقي نحوها، وخصوصا مسألة الاستقلال الوطني ورفض التطبيع مع قوات الغزو.

والخوف من عدم وجود قيادة مشتركة للمقاومة المدنية ان تنشأ مع الأيام مشكلة فراغ في القيادة الأمر الذي يضعف مسألة التعبئة وتوظيف الجهود وتحقيق المكاسب فتنتهي المقاومة عند حدود الاحتجاج من دون ان تتراكم النضالات وتنتج مجموعة أهداف مركزية تحدد برنامج المقاومة المرحلي وتطوره بحسب القدرات والحاجات وتعيد تكييفه مع المستجدات المحلية والإقليمية والدولية.

المقاومة المدنية العفوية (العشوائية) مفيدة في البداية لإرباك الغزاة وتوجيه رسالة بأن وجودهم غير مقبول. إلا ان استمرار المقاومة من دون تخطيط منهجي لمطالبها وأهدافها يبعثرها مع الأيام، ويضعها في مواقع متضاربة لا تتفق على نقاط مركزية تجمع ولا تفرق، وتوحد الجهود في إطار مشترك يلبي رغبات مختلف قطاعات المجتمع وطوائفه ومذاهبه ومناطقه وجهاته.

وإذا اتفقت القيادة المشتركة لجبهة المقاومة المدنية على نقاط محددة من نوع مثلا، تأكيد الاستقلال الوطني، رفض التطبيع مع الغزاة، مقاطعة أي لجنة تعينها واشنطن، ورفض التعامل مع حكومة غير منتخبة بإشراف الأمم المتحدة، ومقاطعة الشركات (النفطية، المقاولات، وغيرها) الغازية، وعدم التعامل مع هيئات اقتصادية ومالية من دون قرار حر ومستقل تتخذه الحكومة الوطنية المنتخبة... كل هذه المطالب يجب ان تصاغ في برنامج عمل نضالي تتفق عليه المرجعيات والأحزاب والقوى صاحبة المصلحة في الاستقلال والتغيير الحقيقي.

عدم الاتفاق على برنامج مشترك والتأخر في تنسيق خطوات الاحتجاج سيتحول الى مشكلة قد تؤدي مستقبلا الى شرذمة المقاومة المدنية وتمزيق أهدافها وتشتيت قواها وتوزيعها الى مطالب بسيطة تلبي رغبات هذه الفئة أو تلك. أو ترضي طموح هذه الجهة أو تلك، ولكنها في النهاية ستكون مجرد مكاسب جزئية تسهم في محصلتها النهائية في تفكيك الدولة وقيام حركات سياسية لها مصالح جهوية ضيقة لا صلة لها بمصالح جهات أخرى.

ولاشك ان قوى المعارضة «المستوردة» ستكون هي المستفيد الأول من تلك الاحتجاجات العشوائية لأنها الوحيدة التي تتمتع بموقع خاص مع المحتل الأميركي وتملك وجهات نظر من نوع رفض تدويل الأزمة العراقية (الأمم المتحدة) والإصرار على «أمركة» الأزمة، كما أنها ترفض تعريب الأزمة وإبعاد الجامعة العربية (أو المؤتمر الإسلامي) عن العراق حتى تفسح الطريق أمام التطبيع مع الغزاة وبالتالي مع «إسرائيل».

برنامج المعارضة «المستوردة» لابد من الرد عليه ببرنامج وطني مضاد يستفيد من مظاهر الاحتجاج التي تمثلت بقيام مقاومة مدنية تبشر بالخير وتؤكد ان العراق ليس سلعة نفطية للبيع ولا ساحة سياسية لدويلات العشائر والطوائف والمذاهب. البرنامج المضاد أصبح ضرورة عراقية مشتركة في الدرجة الأولى ومهمة عربية في الدرجة الثانية. فالقوى العربية والإقليمية مطالبة بدورها في تقديم الحماية السياسية للمقاومة المدنية وبذل الجهود لتدعيمها وتعزيزها على مختلف المستويات الشعبية والرسمية.

وأهمية المقاومة المدنية في العراق تأتي من رمزيتها إذ أن تأثيراتها لن تقتصر على حدود بلاد الرافدين بل يرجح ان تمتد الى أكثر من مكان وزمان. وأهم ما في المقاومة أنها تربك المشروع الأميركي والاستراتيجية الهجومية التي يخطط لها البنتاغون ضد دول الجوار العربي - المسلم. ففشل المشروع الأميركي في العراق يوجه رسالة قوية وسريعة إلى واشنطن... ومفادها ان فشلها السياسي في بغداد يعني فشلها في دمشق وبيروت وعمّان والقاهرة والرياض وطهران وأنقرة وفي كل مكان.

المقاومة المدنية بدأت في العراق. والمهم ان تستمر ضمن أفق سياسي واضح ينطلق من مبدأ ثابت: لا للغزاة... ولا للتطبيع مع الاحتلال

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 229 - الثلثاء 22 أبريل 2003م الموافق 19 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً