لا شك في أن أهم ما أنجزه المشروع الاصلاحي في البحرين هو قدرته على خلق التمايزات المختلفة بين مختلف التيارات من جهة، وبين هذه التيارات والحكومة من جهة أخرى، مع ابقائه على «شعرة معاوية» إن صح التعبير، واتفاق الجميع على النهج السلمي حاجزا واقيا لكل مساحات الحركة، ولكل الايقاعات المتباينة في الساحة.
قد يتململ الفرد بعض الشيء من تفتت المرجعيات السياسية إلى مرجعيات صغيرة وفئوية في بعض الاحيان، لكن... لا بأس بكل هذا إذا ما أنتج حراكا ظاهرا لا متواريا إذ يمكن من خلاله رصد كل مساحات الاتفاق والاختلاف، وبناء مرجعية أخرى قد تحتاج إلى وقت طويل، وقبل كل شيء تحتاج إلى مبادرة واعية من كل الاطراف لاعتماد موقف وطني لا يزهد في التكتيكات لكنه لا يخرج عن دائرة المصالح العليا للوطن.
إلا أن غير المقبول أن نصاغ صياغة حكومية تفتقر إلى التمايز، ولا تعترف بفوارق الرؤيا وطبيعة الحراك السياسي، وموقع كل منا من المشروع الاصلاحي. نعم... قد يخطئ البعض حينما يدعي تملك مشروع الاصلاح، ويتناسى جهد الآخرين الواضح فيه... هذه حقيقة كلما أثبت الحراك السياسي تناقضها، تشبث بها أصحابها أكثر. فمن الواضح جدا وجود مقاطعين ومشاركين في تمايز صريح يرفض الايقاع الواحد، لكن أيا من الطرفين لم يستطع الغاء وجود الآخر، وبقي المشهد السياسي وطنيا في كل مساحاته وايقاعاته باعتراف القيادة السياسية بذلك، وما أكثر الشهادات التي سجلها رسميون على وطنية المقاطعين للانتخابات، بما يعني أن مساحة التمايز حتى في ايقاعها الحاد والحاسم لا تخرج عن الدائرة الوطنية، وهذا انتصار كبير للمشهد الوطني بكل تمايزاته.
إذا جئنا لصحيفة «الوسط»، فقد نحت منحى آخر في صوغ الموقف الوطني، فهي صحيفة سياسية مستقلة، بدأت تنقل المشهد الوطني بصورة أخرى، تراعي فيها توازنات الواقع بما فيها الواقع الرسمي، والواقع يقول: إن مساحة الاهتمام الذي أولته «الوسط» لمختلف التيارات خلق تنافسا مطلوبا عند الصحف الأخرى، وبدا أن المشهد الوطني يحتاج إلى الصورة والصورة الأخرى لكي يكتمل المشهد، فهل يريد المسئولون أن يقتطعوا من المشهد الوطني بكل ايقاعاته وتبايناته لكي يخف العبء على صحافة عاشت سنوات طويلة على فتات قانون أمن الدولة؟ هل هذا الايقاع الوسطي مربك حقا؟ إذن... ماذا عن الايقاعات الأخرى التي تتجاوز ايقاع «الوسط» في فهمها لتوازنات الواقع وطبيعة المشهد الوطني المطلوب؟ هل هذه أيضا ليست وطنية؟
ما ينبغي الوقوف عنده بكل تأمل وتجرد وموضوعية، أننا وصلنا إلى درجة من الرشد السياسي في فهمنا لتوازنات الواقع، وفهمنا لما يتطلبه المشهد الوطني، واصرارنا على النهج السلمي على رغم وجود كثير من الاحباطات التي تحتاج إلى ايقاع أكثر صرامة وحسم معها، ومع ذلك فهذا المشهد الذي يقف فيه الرمز في قبال الكثير من الشباب ليمنعهم من التصادم أو الاحتكاك مع أجهزة الأمن لا يرضي المسئولين في الدولة، ويطالبونهم بالكثير ليثبتوا أنهم اصلاحيون وحريصون على أمن الوطن ووحدته.
ما ينبغي الوقوف عنده، أن رموزنا بدوا حيادين أكثر من المحايدين أنفسهم، في واقع مائلة كفته بكل جدارة واستحقاق للمتربعين في أجهزة الحكومة، في ظل الجمود الواضح، والتسويف واللف والدوران الذي لا يخفى على أحد في الملفات الساخنة، والخشية أن يتحول هذا الحياد إلى عجز تام في ظل تراكم هذه الملفات وجمود المسئولين... الخشية أن يدفع الرموز من كرامتهم ورمزيتهم ضريبة هذا الجمود وهذا التوازن المائل. إن تحلي الرموز بأقصى درجات المسئولية وضبط النفس في الحفاظ على السلم الأهلي، ينبغي أن يتبعه تقدير مماثل من المسئولين في الحكومة، لكن الواقع يشهد بغير ذلك، الواقع يقول: إن هناك من يريد صب الزيت على النار، فليست حوادث شارع المعارض ببعيدة، وليس ما جرى على «الوسط» ببعيد، وليس مشهد الاحتقان السياسي المتكرر بخاف على الجميع بمن فيهم مسئولي الحكومة، والسؤال بعد كل هذا: هل أصبح المشروع الاصلاحي رهانا حكوميا؟ أم أنه رهان وطني بكل المقاييس؟ لأن من تجرع عناء المحافظة عليه ونيل من كرامته ووطنيته، وتجرع غصص حياده في الواقع المائل، هم طبعا غير الحكوميين. ما ينبغي الاشارة إليه في هذا السياق، ان كل طرح يوصف بالتطرف في الساحة الوطنية هو ايقاع أكثر صرامة وليس تطرفا، لأن ساحتنا الوطنية لا يوجد بها تطرف ولله الحمد، والنهج السلمي شعار الجميع من أقصى اليمين إلى الوسط إلى اقصى اليسار، وهذا اتفاق يصعب الحصول عليه في مجتمعات أخرى، وانما ما نشهده من ايقاع حاد نوعا ما نتيجة هذا الميل الكبير وخلل التوازنات في الساحة، فليس كل شخص يستطيع ضبط نفسه أو اتخاذ موقف متلازم مع المواقف الأخرى، أو البقاء على الحياد المنهك الذي قد يضعف من رصيده الشعبي، وخصوصا في ظل الجمود الواضح في الموقف الحكومي تجاه الكثير من القضايا والملفات الساخنة.
لذلك ينبغي أن نتوقف جميعا عند مجموعة ملاحظات مهمة:
الأولى: أن المشهد الوطني لا يحتمل أي تأزم أو تصعيد من قبل أي طرف، ولو جاز القول، لكان الجمود على ما فيه من ثقل على النفس، أرحم من النكاية بالآخرين والتربص الدائم بهم، إلا أن المطلوب، أن تشهد الساحة الوطنية حيوية في الحراك السياسي لن تكون مكلفة، ولن تخل بالتوازنات ولا بالمواقع إذا ما تم توظيفها بشيء من الرشد والحكمة.
الثانية: ينبغي التفكير جيدا بأن التمايزات هي طبيعة في البشر، لا يستطيع قهرها لا مسئول ولا معارض، وبالتالي ففهم هذه الحقيقة يريح الكثيرين منا، ويسرع خطانا للاصلاح، ويعجل بمنظومة واسعة من التلاقي قد تكون مخبوءة أو غير مكتشفة، ولكنها بحاجة الى الأناة والصبر، وعدم تجاهل الآخرين، لأن التجاهل ليس بامكانه الغاء الحقائق، لكنه قادر على تعقيد الواقع بكامله، ويجعل ما نلتقي عليه افتراقا، فلا داعي لأن نكابر كثيرا، ونصل إلى طريق مسدود يقطع خط الرجعة على الجميع.
والملاحظة الثالثة: هناك حاجة إلى معرفة أن هذه التمايزات لا تضر بوحدة الوطن ومصيره ولو كان لنا أن نلتقي على مرجعية أخرى أشمل من الوطن لفعلنا، لكننا مرجعيات متباينة على كل حال، والحقيقة الأهم أن القاسم المشترك هو الوطن، والحقيقة الأوضح أننا نتفق على العيش بسلام في هذا الوطن من منطلق مرجعيات مختلفة تمارس دورا وطنيا من أفقها المفتوح على الوطن، وقد تكون هذه الحقيقة من البداهة بحيث أنها تردد عل كل لسان، إلا أن تطبيقها وفق طبيعة المصالح الضيقة والتوازنات المخلة قد يجعلنا ننكرها نكرانا صارخا، لأننا نسعى إلى بسط مصالحنا الضيقة على مساحة الوطن كله، لتكون بمثابة الوطن، فلنفهم هذه الحقيقة، الوطن للجميع،
إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"العدد 228 - الإثنين 21 أبريل 2003م الموافق 18 صفر 1424هـ