كثر الكلام عن أخطاء وجرائر صدام، على العادة «العربية» غير الكريمة: «إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه»، ولكن لا يستوي من يتحدث عن صدام بعد سقوطه ومن تحدث عنه قبل السقوط المهين.
وإذا كثر الكلام عن الصدمة التي أصابت الأمة بسبب فعلة صدام، حتى قارنها البعض بنكسة حزيران، فإن هناك الكثير من المشاركين في تلك «الزفة» وعندما اكتشفوا ان العريس عقيم، ارتفعت الصيحات والعويل.
على أننا هنا في البحرين يمكننا الحديث عنه بالفم الملآن، فالشعب البحريني الذي وقف ضد الحرب الأميركية، الظالمة على العراق، كانت نظرته إلى الموضوع واضحة كالمرآة المجلوة، فلم يكن من الصعب أن تقرأ الملصقات على الجدران هنا وهناك. عبارة واحدة تختزل الموقف الشعبي الواعي بما تجاوز موقف الكثير من «الكتبة» وحملة الأقلام:«نحن ضد أميركا ولسنا مع صدام».
مخدوعون أم مخادعون؟
هذا الموقف لم يكن غريبا أبدا، فالموقف الشعبي العام في البحرين منذ البداية كان واضحا في تعاطيه مع محنة الشعب العراقي، إذ كان يفرّق بين النظام والشعب، ولم تنطلِ عليه المحاولة البعثية العابثة باختزال العراق في شخص القائد الملهم «صدام»! من هنا وقف الرأي العام ضد الحرب الأولى التي شنها على إيران، في وقت كانت فيه أغلب المواقف العربية الرسمية داعمة بالمطلق للموقف العراقي في الحرب، التي وقف العالم كله يتفرج عليها من دون اكتراث، وكأنها لا تعنيه من قريب أو بعيد إلا بمقدار ما تهدّد استمرار شحن براميل النفط من سواحل الخليج.
الآن بعد انزياح الكابوس بدأ الكثيرون «يتشطّرون» في الحديث عن الطاغية، غير بعض «جيوب المقاومة» المريضة، التي مازالت تصف حرب الخليج الأولى بالشعارات التي روّجها نظام صدام، ربما بسبب ماأصابها من اظطرابات في كيمياء المخ !
ولعلي لا أبالغ إذا ما قلت إن من حملة الأقلام الصحافية من هم شركاء في المسئولية عن الدماء - ونحن نتكلم عن مليون قتيل من الطرفين - التي سفكت في تلك الحرب، كما عن الحرب الثانية والثالثة، بمعنى الترويج للجريمة المتعمدة والتزيين، فالأصابع الأميركية كانت وراء هذه الحروب الدورية التي خططت لتجفيف منابع الثروة والعزة والتقدم وتقويض الاستقلال في الخليج.
شطارة صدام حسين!
يمكنك ان تأخذ غرفة من البحر فتعرف مقدار ملوحته، فماذا يمكنك ان تأخذ من نظام صدام لتستدل على مرارته؟ أحد رموز المعارضة العراقية التقيته في نهاية السبعينات اختصر الجواب في كلمتين: «وزارة إعلام». ولعل من عاصر فترة منتصف السبعينات يتذكر كيف كان النظام البعثي ينشط في إيصال «رسالته الخالدة» إلى شعوب المنطقة، فكنت ترى الصحف اليومية (الجمهورية والبعث) والمجلات (ألفباء والإذاعة والتلفزيون والعمال)... الخ، توزع رزما رزما على النوادي والمكتبات والمؤسسات الأهلية. ولعل الكثيرين يذكرون كيف أسست «جريدة» أسبوعية هنا في البحرين ناطقة بلسان حزب البعث، وأخذت تطبّل للنظام العراقي في حربه ضد إيران «الفارسية»، «المجوسية»، «عابدة النار»، وتولى رئاسة تحريرها أحد الصحافيين خفاف الظل، وساعده صحافي - للأسف - كان لاجئا يعمل في مدرسة ثانوية. ولو سألت عن تلك الصحيفة اليوم لما سمعت أحدا يذكرها بخير، وخصوصا أنها لم تعمر طويلا، وبالخصوص لأنها كانت صدى ركيكا ثقيل الظل لإذاعة صوت الجماهير.
على أن نشاط صدام الإعلامي لم يقتصر بطبيعة الحال على البحرين أو بيروت، بل كان يهدف الى الوصول الى الصحافة المهجرية التي تركت بيروت - الحرب الأهلية الى باريس ولندن... وحتى قبرص وروما. في فترة الحرب الأولى نشرت صحيفة صغيرة في روما، من النوع الذي يعتاش على الهبات والهدايا، و«الساعات والأقلام الذهبية» خبرا عن «مخطط إيراني لنقل رفات الإمام علي (ع) من النجف الى قم!» والخلطة كانت مكشوفة، فما يُدري تلك الصحيفة البائسة بالإمام علي وموضع قبره؟ وما يُدري رئيس تحريرها أين موقع قم من الخريطة؟وسرعان ما تبين ان الخبر «إعلان مدفوع» من السفارة العراقية هناك ليعود الإعلام العراقي إلى التطبيل عليه في حربه الإعلامية آنذاك.
الصحافة وخيرات النفط العراقي
ويجب أن نذكر ان الصحافة المهاجرة أصابها من خيرات النفط العراقي الكثير، فكانت هناك مجلات عرفت بميولها «القلبية» المكشوفة للنظام العراقي، وكان يُغدق عليها الكثير قبال ما تنشره له من تسبيحات وأهازيج!
في مطلع العام 1979، اختارت مجلة «تايم» الأميركية على غلافها الإمام الخميني «رجل العام»، وهو أمر سليم من الناحية المهنية البحتة لمن يشتغل صحافة، بعيدا عن الحب والبغض أوالمحاباة، إذ سيطر الخميني على المشهد الإعلامي منذ منتصف العام 1977، حتى أبعده البعثيون من النجف الى نوفل لوشاتو، وانتهاء بعودته الى طهران. ولكن صدام حسين لم يكن بالذي يرتضيه ذلك، فأوعز الى إحدى المجلات المهاجرة باختياره «رجل الثمانينات»، وبودي ان اعرف يوما كم قبضت تلك المجلة «المحترمة» من دولارات لقاء ذلك اللقب المغشوش.
ونحن هنا نتكلم عن «سياسة إعلامية» معتمدة رسميا، كان يعوّل عليها النظام كثيرا في تسويق «الرئيس الملهم»، وليس العراق البلد، الحضارة، التاريخ، الشعر، الفن، الخط، المسرح. وخيرات النفط كانت تدفع لسماسرة ومرتزقة أقلام لتصنع من هذا القاتل المحترف والجلاد العتيد عظيما من عظماء الأمة وفارسها وحارس بوابتها الشرقية، وغيرها من الصفات والألقاب لم يعد تتداولها إلا البقية المتفحمة في قاع الإناء، من مرضى الحقد الأسود.
طراطير آخرون!
ولم يقتصر العمل الإعلامي على الصحافة وحدها، فكانت هناك شطارة في مجالات أخرى، وصدام لم يكن ليثبت شطارته لو لم يتوفر غباء لدى المتورطين في تصديقه: شعراء وكتابا وصحافيين ومسرحيين وممثلين. الكل صدّق اللعبة أو ساقه الطمع إلى الشرب من أنخاب النفط العراقي كامل الدسم!
مسرحيا، كان قد أحضر فرقة مسرحية من مصر لتقوم بتمثيل مسرحية لجنوده على الجبهة في البصرة، لتمجد انتصاراته العظيمة. الطريف أن صاروخا إيرانيا سقط بالقرب من المسرح فهرب الممثلون، تماما كما هرب صدام وأزلامه بعد عشرين عاما وأخلوا الساحة للأوغاد و«المرتزقة» و«الطراطير»! المخرج - وله اسم لامع في المسرح العربي - مات قبل أكثر من عامين، والممثلة «البطلة» تحجبت.
وفنيا أيضا، أحضر مجموعة من الممثلين المصريين ليمثلوا له «القادسية»، فهو لم يكن ليقبل أن يقوم المخرج السوري الشهير العقاد بإخراج أفلامه الكبيرة في تلك الفترة عن «عمر المختار» و«الرسالة»، فلابد من تسجيل ملحمته في فيلم عن القعقاع «التكريتي» العظيم!.
على أن ما كان يوجع القلب في تلك الفترة ما كان يعقد من مهرجانات المربد، وكان من أكبر ما جناه صدام في سياسته كلها! والشعراء الكبار والصغار الذين ذهبوا الى هناك لم يبحثوا عن قسمات وتجاعيد وجه العراق ولم يسمعوا آهات العراقي المساق إلى الحرب دفاعا عن المصالح الأميركية، بل شاركوا في الزفة بأعلى أصواتهم، حتى أن شخصا في منزلة عبدالله العلايلي وقف يمجّد صدام - العراق، الذي وقف في مواجهة الغزاة! بما لا مزيد عليه من أي «طرطور» من طراطير وزارة الإعلام العراقية أو «كتبة» صحيفة البعث.
وأذكر أن شاعرة كويتية ألقت قصيدة عصماء كلها تمجيد في القائد البطل، الذي لم يمهلها أكثر من عامين حتى غزا بلدها وطرد أسرتها وشرد شعبها باسم الوحدة العربية التي مجدتها في قصيدتها «الرائية» والتي أرجو لو يعاد نشرها ليعرف القراء طوابير المثقفين والمثقفات الذين تطوّعوا في تشييد الصنم الأكبر في بغداد.
حدث في البحرين
وكلمة حق أقولها في حق أهل البحرين ليحفظها التاريخ: ان اللعبة لم تنطلِ عليهم أبدا، كان البحريني البسيط يرفض بفطرته ما يسوّقه الإعلام «الصدامي» في منتصف السبعينات. كان يشعر بالخطر وهو يتصفح المجلات والجرائد المهداة إليه رزما رزما كل يوم. وكم شهدت شوارع المنامة وأزقة القرى المتربة صيحات الآلاف ضد الطاغية صدام في المواكب بينما كان الإعلام العربي يرفعه إلى مرتبة فارس الفرسان. وعندما وزعت السفارة العراقية أكياس الرز على المآتم لم يقبل بتسلمها أحد. وعلمت انه عندما وزعت قطع السجاد على المساجد انتزعها بعض الشباب وذهبوا بها إلى البحر وأحرقوها هناك. وذلك درس يكشف كيف يدرك المواطن البسيط ما يفوت إدراكه على الكثير من «الكبار»، شعراء و«شاعرات»، ومسرحيين وفنانين ومثقفين... وكم من المخجل انه بعد كل ما انكشف من خطايا صدام وفظائعه مازال هناك صوت مبحوح اليوم يقرقع بتلك المعزوفات المهترئة التي لم تعد تطرب أحدا من السكارى في «كباريهات» الثقافة العربية
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 228 - الإثنين 21 أبريل 2003م الموافق 18 صفر 1424هـ