هناك قلق أميركي. الولايات المتحدة توقعت حين حققت أهدافها المعلنة: (احتلال بغداد وقتل الرئيس العراقي وأسرته والمجموعة المقربة منه) ان الشعب العراقي سيقف مع المعارضة «المستوردة من الخارج» وسيبدأ العمل معها لتأسيس دولة أميركية في «الشرق الأوسط».

كانت الخطة الأميركية واضحة قبل الاحتلال تقوم على خطوات سياسية ثلاث: الأولى: الاحتلال وتدمير النظام، الثانية: تكييف الشعب مع التوجهات الأميركية (الصهيونية في المنطقة) وتأسيس حكومة موالية لسياسات واشنطن، والثالثة: تحويل العراق الى مهبط لطيرانها وقواتها والبدء في الانطلاق منه لإسقاط الدول المجاورة واحدة بعد أخرى.

الخطة الأميركية السياسية لاتزال قائمة لأن هدف العدوان في النهاية هو تأمين الشروط المحلية والإقليمية لنجاحه. فالنجاح السياسي كما تراه إدارة البيت الأبيض هو الشرط الموضوعي لتحصين الفوز العسكري وتغطية مختلف نفقاته المادية والاقتصادية (النفط والأسواق والمواد الخام).

هذه الخطة لاتزال قائمة. ومن دون تأمين نجاحات موازية للفوز العسكري من نوع كسب أبناء العراق وترهيب دول الجوار من الصعب على واشنطن التحدث عن انتصار سياسي. وحتى الآن فشلت واشنطن في تحقيق تلك المتطلبات الضرورية لإعلان الانتصار السياسي. الفوز العسكري حصل وهو كان متوقعا ولا خلاف عليه، ونهب الثروات وسرقة المخطوطات والوثائق والمتاحف ومعاهد العلوم وتفريغ الدولة من مستنداتها وذاكرتها حصل... وبقي على واشنطن ان تستكمل فوزها بانتصار على الشعب وتنصيب حكومة أميركية تحظى بتأييد شعبي، مضافا إليها هزيمة المنطقة (دول الجوار) سياسيا وإذلال شعوبها من طرق الإرهاب والتخويف.

حتى الآن هذه «الانتصارات» لم تحصل بل ان الأمور تسير عكس التوقعات وحسابات أجهزة الاستخبارات والبنتاغون.

أميركا قلقة. توقعت ان مخالفة الشرعية الدولية وتجاوز مجلس الأمن وقراراته وكسر أنف الدول الكبرى المعارضة للحرب على العراق هي شروط كافية للتخويف والإرهاب وإذلال الشعوب وتذليل العقبات التي ترى أنها تعطل إمكانات سيطرتها وحماية «أمن إسرائيل» من مستقبل مجهول.

حتى الآن لم تحصل مثل هذه «الانتصارات» لذلك أميركا قلقة من احتمال انهيار فوزها العسكري وانفراط الهالة التي تريد اصطناعها لاقناع نفسها واقناع المنطقة واقناع العالم بأن ما فعلته من دمار شامل في العراق هو من أجل الخير وضد الشر.

حتى الآن فشلت أميركا في استكمال فوزها العسكري بنجاحات سياسية كافية لاعلان الانتصار على العراق، وبالتالي في «الشرق الأوسط».

أميركا قلقة. وقلقها يبدأ من تقدير سلبي للمنطقة. والخطأ الأول يجر واشنطن الى خطأ ثان وثالث. فالمشكلة تبدأ من الخطوة الأولى، وإذا كانت الأولى ناقصة فإن كل الخطوات التالية ستكون ناقصة. ومجموع «النواقص» سيؤدي في النهاية الى فشل كامل... ليس الآن ولكن بعد حين.

أميركا قلقة. وقلقها يبدأ من خطأ في تقديرها الأول الذي على أساسه أجرت كل حساباته وأقدمت على ارتكاب فعلتها.

بدأ الخطأ من البداية. ظنت واشنطن ان احتلال قواتها للجغرافيا السياسية يعني منطقيا نجاحها في احتلال الجغرافيا الاجتماعية. إلا ان أميركا فشلت حتى الآن في ترجمة فوزها الأول الى نجاح آلي في الفوز الثاني وتحويل السيطرة الجغرافية الى سيطرة اجتماعية (بشرية).

أخطأت أميركا. أخطأت حين اعتقدت أن الجغرافيا تساوي البشر. وان النجاح في الضربة الأولى يعني انتقال الفوز من دون ضربة الى الثانية.

حتى الآن لم تنجح أميركا في حربها. كسبت المعركة العسكرية وبقي عليها الكثير لتحقيق الانتصار السياسي وكسب حربها بالسيطرة على الجغرافيا الاجتماعية. الجغرافيا غير البشر والنجاح في احتواء الجغرافيا لا يعني بالضرورة النجاح في كسب الاجتماع (البشري).

البشر مسألة أخرى. واعتقاد الإدارة الأميركية أن المشكلة في «الشرق الأوسط» هي صدام حسين وليس هناك من مشكلة ومخاوف من «إسرائيل» وصاحبها أرييل شارون تكون أخطأت الخطأ القاتل.

إلى «إسرائيل» هناك مشكلة المشاعر والشعائر. وخطأ واشنطن أنها ظنت ان القيادات السياسية تستورد من مختبرات أميركا كما تستورد البضائع من مصانع السيارات والثلاجات. وهذا خطأ شنيع ومضحك على كثرة شناعته وغبائه. فأبسط قواعد الاجتماع البشري أن القيادة السياسية تُصنع لا تُستورد. وأليات صنعها معقدة ومركبة لا تستطيع مجموعة من الأكاديميين يعملون في أجهزة ومؤسسات البنتاغون تركيب قيادة سياسية على اجتماع أهلي يتمتع بآليات خاصة ومستقلة عن الدولة (حتى دولة صدام التي حكمت العراق قرابة ثلاثة عقود).

هناك قلق أميركي. فالولايات المتحدة اكتشفت بعد احتلال العراق أن مشاعر سكان مدن وقرى ومساكن وأحياء ومناطق بلاد الرافدين تميل الى الإسلام وتريد الإسلام الناطق السياسي باسم الدولة.

انها مفاجأة. مفاجأة ليست لأبناء المنطقة العربية الإسلامية، بل لدوائر القرار السياسي في البنتاغون. من حق الولايات المتحدة ان تقلق... أما المنطقة فهي مطمئنة. فالخير كثير على رغم الكوارث وأم الكوارث